الأسبوع الذي هزّ عرش العملات الرقمية

في كانون الثاني/ يناير، غرَّد مايك نوفوغراتز –النجم المعروف في مجال صناديق التحوط الذي تحول إلى مستثمر كبير في العملات الرقمية– بصورة لوشم جديد كبير الحجم على كتفه الأيسر. وظهرت في الوشم صورة ذئب يعوي على القمر وراية مكتوب عليها كلمة “لونا”، وهي عملة رقمية كان يجري تداولها حينئذ بسعر 78 دولاراً.

“أصبحت الآن مستثمراً رسمياً في لونا!!!”، هكذا كتب بحماس هذا المستثمر الفريد في مجموعة فورتريس لصناديق التحوط، وهو الآن المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة غالاكسي ديجيتال، وهي شركة لإدارة استثمارات تطمح إلى أن تكون من أشهر الشركات في مجال العملات الرقمية. وبحلول بداية شهر نيسان/ أبريل، وصلت لونا إلى ذروتها عند 116 دولاراً بعد أن سارع إلى شرائها المشترون، ومنهم المستثمرون الأفراد المتحمسون.

ولكن في هذا الأسبوع، فقدت لونا كل شيء. إذ تراجعت قيمتها إلى الصفر بعد انهيار قيمة terraUSD، وهي رمز مميز شقيق (sister token)، على الرغم من تصميمها لتكون مرتبطة بقيمة الدولار الأمريكي.

ومن غير الواضح ما الذي سيفعله نوفوغراتز بشأن وشمه. أما الرئيس التنفيذي لشركة غالاكسي، التي استثمرت في الشركة التي تقف وراء الرموز المميزة، فلم يستجب للطلبات العديدة التي تدعوه إلى التعليق على الأمر. لكن سقوط “لونا” و”تيرا” ترك أثراً على سوق العملات الرقمية العالمية التي تبلغ قيمتها 1.3 تريليون دولار. فهذه العملات تأتي وتذهب، وقد مات آلاف منها منذ اختراع البيتكوين في عام 2009. ولكن كان فشل “تيرا” اختراقا. رغم أنها صُمِّمت لتكون عملة مستقرة (stablecoin) – أيْ رمز مميز ثابت مرتبط بالدولار.

وموتها المفاجئ في وقت كانت فيه تقييمات العملات الرقمية تشهد تدهورا بالفعل أثار أسئلة جادة حول أداء سوق العملات الرقمية بأكمله. ففي أسبوع واحد فقط، انهار تقييم منصة “كوينباس”، وانخفضت أسعار البيتكوين إلى أقل من 30 ألف دولار للمرة الأولى منذ الصيف الماضي، وفشلت “تيثر” في الحفاظ على ارتباطها بالدولار، رغم أنها أكبر عملة رقمية مستقرة قريبة إلى البنك الاحتياطي الفيدرالي.

وشهد كثيرٌ من الأسواق المالية تراجعاً حاداً في الأسابيع الأخيرة، حيث أُصيب المستثمرون بالفزع من تصاعد التضخم واحتمال حدوث ارتفاعات حادة في أسعار الفائدة. ولكن انهيار العملات الرقمية السريع والمفاجئ كان ذا طابع مأسوي أكبر.

وقضى أداء تلك العملات على المزاعم القائلة بأن أصول العملات الرقمية يمكن أن توفر تحوطاً من التضخم أو أن تكون بمثابة ذهب رقمي – ناهيك عن التباهي والتفاخر الكبيرين من أنصار العملات الرقمية بقدرة هذه العملات على أن تكون ركيزةً للنظام المالي العالمي الجديد.

وقالت شركة CryptoCompare للبحوث إن لونا كانت “أكبر تبديد للثروة شهدته هذه المدة الزمنية في مشروع واحد في تاريخ العملات الرقمية”.

ويرى ران نيونر، وهو متداول شهير في العملات الرقمية ومتحمس صريح للرموز المميزة (tokens)، أن فشل لونا “من أكبر الكوارث التي شهدها مجال العملات الرقمية على الإطلاق”. وقال في بث عبر الإنترنت لآلاف من متداولي الأصول الرقمية يوم الجمعة إنها “جرس إنذار حقيقي” يدل على أن أسعار العملات الرقمية يمكن أن تهبط إلى الصفر.

التراجع إلى تيرا

كثيرٌ من المؤمنين بمشروع العملات الرقمية سوف يظلون دائماً مؤمنين بقدرتها المزعومة على أن تحل محل الدولار في التجارة العالمية، والتحرُّر من المؤسسة المالية التقليدية. وفي فعالية أقامتها الفايننشال تايمز في شهر نيسان/ أبريل الماضي، قال مايكل سونينشين، الرئيس التنفيذي لشركة Grayscale للاستثمار في العملات الرقمية: “ستدمر أي حكومة عملتها كل 27 عاماً في المتوسط. ويستيقظ المستثمرون أو المواطنون فيرون قوتهم الشرائية قد تآكلت بين عشية وضحاها، بنسبة تزيد أحياناً على 10%”.

لكن الاضطرابات التي حدثت في الأيام الأخيرة أبرزت أن الذين يسعون إلى تكوين ثروة من العملات الرقمية يراهنون رهاناً غير مضمون.

كان نموذج TerraUSD تجريبياً. وعادةً ما تقول الجهات القائمة على العملات المستقرة إن عملاتهم مدعومة باحتياطيات دولارية بقيمة دولار لكل وحدة من العملة. وعلى النقيض من ذلك، كانت Terra مدعومةً بخوارزمية مرتبطة برمزها المميز الشقيق، “لونا”، للحفاظ على ارتباطها بالدولار. ولكن قيمة Terra البالغة دولاراً واحداً بدأت في الهبوط يوم الاثنين عندما تبخرت الثقة في ذلك النموذج، مُنهيةً اليوم عند 90 سنتاً تقريباً. واستمر هبوطها حتى وصلت إلى أقل من 15 سنتاً يوم الجمعة. وفشلت شتى جهود الإنقاذ التي قام بها الداعمون، وتم إيقاف شبكة تيرا مؤقتاً يوم الخميس، ولكن لا يزال الداعمون يأملون في إحيائها.

كما انخفض سعر أقدم وأكبر عملة رقمية، وهي البيتكوين، بنسبة 11% يوم الاثنين، وبنسبة 12% هذا الأسبوع، وانخفض بأكثر من 50% منذ تشرين الثاني/ نوفمبر 2021. ويُعدّ الهبوط العام في السوق ككل أحد أسباب انخفاض قيمتها. ولكنها تضررت أيضاً من انهيار عملة التيرا التي كانت في يوم من الأيام إحدى أفضل خمسة عملات مستقرة.

إن حجم التيرا الصغير نسبياً يعني أن زوالها لا يؤدي إلى زوال سوق العملات الرقمية ككل. ولكن الأهم هو أن هذه الواقعة قد جدَّدت المخاوف المتعلقة باحتمالية حدوث تصدعات في عملات مستقرة أخرى، بما في ذلك أكبرها جميعاً، وهي عملة التيثر، مما يثير الشك في الأسس التي يقوم عليها قطاع العملات الرقمية.

وفي يوم الخميس، تعثر أيضاً ارتباط عملة التيثر بالدولار بقيمة دولار لكل وحدة، حيث انخفض سعر الرمز المميز إلى 95.11 سنتاً. وتختلف التيثر عن التيرا في ناحية مهمة، وهي أنه بدلاً من اعتمادها على خوارزمية، يقول القائمون عليها إن ارتباطها بالدولار تكفله احتياطيات دولارية كافية تساوي الرموز المميزة المتداولة.

يقول أندرو بير، العضو المنتدب في الشركة الاستثمارية الأمريكية Dynamic Beta: “من المفترض أن يكون النقد في صورة نقدية. وحينما لا يكون كذلك، كما هو الحال عندما تجمدت أسواق المال أثناء الأزمة المالية، ينشأن الذعر الشديد”.

وأضاف قائلاً: “كانت عملة تيرا شبيهة بوضع أموالك في بنك إيراني يعرض سعر فائدة بنسبة 20% ثم أغلق أبوابه فجأة. وحينئذ ستكون محظوظا لو استطعت استعادة أموالك أو حتى إدراك ما حدث”.

لقد أقسم باولو أردوينو، كبير المسؤولين التكنولوجيين في تيثر، على الدفاع عن ارتباط العملة بالدولار “بأي ثمن”. وقال في هذا الأسبوع إنه مستعد لبيع بعض من “أطنان” الديون الحكومية الأمريكية التي جمعتها تيثر في سبيل تحقيق ذلك. ولكن التفاصيل المتعلقة بمكونات هذه الاحتياطيات شحيحة. ورفض أردوينو في هذا الأسبوع إخبار فاينانشيال تايمز بالمزيد عن حيازاته من الديون الحكومية الأمريكية البالغة 40 مليار دولار، قائلاً إنه يريد حماية “الخلطة السرية” للشركة.

ومن المحتمل أن يكون الفشل الأعمق في ارتباط تيثر بالدولار كارثياً على سوق العملات الرقمية الأوسع، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن ما يصل إلى 70% من مشتريات البيتكوين تُجرى باستخدام هذا البديل الرقمي للدولار.

ويقول إنجو فيدلر، الأستاذ المنتسب في جامعة كونكورديا في مونتريال الذي يدير معمل بحوث البلوكتشين: “إذا توقفت تيثر عن استبدال كل وحدة منها بدولار واحد –أيْ إذا انفك ارتباطها بالدولار– فسيكون لذلك تأثير هائل على جميع الأسواق التي تشهد تداولاً مقابل تيثر”.

ولكن إيلان سولوت، الشريك في صندوق تحوط العملات الرقمية المُسمى “تاجوس كابيتال”، يقول إن سوق العملات الرقمية واجهت في هذا الأسبوع انتقادات لا داعي لها. وقال: “ما أزعجني هو زوبعة الاتهامات التي لا أساس لها من الصحة … ونظريات المؤامرة … والنبش عن الفضائح”.

ويعتقد إيلان أن تيثر أقوى من منافستها التي انهارت. فيقول: “تتمتع تيثر بقدر أكبر من احتمالية … أن تكون على غرار ما حدث لبنك ليمان، سلسلة من العواقب التي ستكون واسعة النطاق للغاية، [ولكن] احتمالية أن تهوي إلى الصفر أقل بكثير من تيرا”. ومع ذلك، قال إن احتمالية “المخاطر النظامية” الناشئة عن تيثر تُعد مثار قلق وجيهاً.

مدينة البيتكوين

ما أصاب السوق في الآونة الأخيرة لا يقتصر على التذبذب في أسعار العملات وارتباط العملات المستقرة بعملات حكومية.

بل أصدرت وكالة اليوروبول في هذا الأسبوع تذكيراً بعمليات النصب والاحتيال التي انتشرت في السوق، عندما وضعت الوكالة روجا إيغناتوفا، مخترعة عملة “وان كوين”، على قائمة “الهاربين المطلوبين”، وذكرت الوكالة أن هذه الهاربة “حثّت مستثمرين من جميع أنحاء العالم على الاستثمار في “عملة” لا قيمة لها في الواقع”. وقالت وكالة اليوروبول إن مخطط هذه الهاربة تسبب في خسائر تصل على الأرجح إلى عدة مليارات من الدولارات.

وفي يوم الثلاثاء، صرحت شركة كوينباس لتبادل العملات الرقمية في بيان أرباحها خلال الربع الأول من العام بأن العدد الشهري للمستخدمين المتداولين وحجم التداول والأصول على المنصة قد انخفضت جميعاً عن الربع السابق، مما يشير إلى أن أسعار العملات الرقمية الأضعف لا تجذب المستثمرين الأفراد بقدر ما كانت تجذبهم في الماضي.

وقد فقدت أسهم شركة كوينباس الآن نحو ثلاثة أرباع قيمتها منذ بدء تداول أسهمها في السوق العام الماضي، وانخفضت بنسبة 32% هذا الأسبوع لتصل إلى 72 دولاراً يوم الجمعة. ويقول ديفيد ترينر، الرئيس التنفيذي لشركة New Constructs للبحوث الاستثمارية: “لسنا متأكدين من أن هذا السهم يستحق أكثر من السيولة النقدية المذكورة في دفاتر الشركة أو 33 دولاراً للسهم”.

وشركة كوينباس ليست وحدها في ذلك على الإطلاق. فقد انخفض مؤشر ناسداك الزاخر بالشركات التكنولوجية بنسبة 27% هذا العام، وانخفضت أسهم شركات أخرى من خارج مجال العملات الرقمية بعد أن كانت تحلق في السماء، مثل سهم نتفليكس الذي انخفض بنسبة 71% وسهم بيلوتون الذي انخفض بنسبة 63%.

وبعض الانخفاضات المتزامنة في أسعار العملات الرقمية وأسهم الشركات التكنولوجية قد تعزز نفسها بنفسها. يقول إدوارد هندي، كبير مسؤولي الاستثمار بشركة “تاير كابيتال” لإدارة الأصول الرقمية: “كثير من حائزي العملات الرقمية يملكون أيضاً أسهماً في شركات تكنولوجية، وقد خسروا أموالاً طائلة. وهؤلاء الأشخاص يبيعون بعض ممتلكاتهم وهم في حالة من الذعر والهلع، وهذا ما يدفع السوق إلى التراجع”.

كما أن هبوط أسعار العملات الرقمية يضر بكبار الحائزين أيضاً. ولعل أبرزهم حكومة السلفادور التي جعل رئيسها المتحمس للعملات الرقمية، نيب بوكيلي، البيتكوين عملة قانونية العام الماضي. ونشر على توتير في هذا الأسبوع صوراً لنموذجه الذهبي المصغر لمدينة البيتكوين المزمع إنشاؤها بتمويل من العملات الرقمية.

وحتى في ظل تراجع أسعار البيتكوين هذا الأسبوع، اشترى بوكيلي كمية هائلة من هذه العملة الرقمية، فكانت تلك أحدث عملية شراء حكومية لخمسمائة وحدة بيتكوين بمتوسط سعر 30744 دولاراً للوحدة. وغرَّد بعد ذلك بيوم واحد قائلاً: “يمكنني بيع [هذه] العملات الآن وجني ما يقرب من مليون دولار في 11 ساعة فقط، لكني بالطبع لن أفعل”.

وكانت البيتكوين قد أصبحت عملة قانونية في شهر أيلول/ سبتمبر. وتشير تقديرات الفاينانشيال تايمز إلى أن السلفادور أنفقت أكثر من 100 مليون دولار على البيتكوين، وبحلول هذا الأسبوع، انخفضت احتياطيات البلد من العملة الرقمية إلى ما يقرب من 72 مليون دولار.

يقول هيكتور توريس، وهو من كبار الشركاء في مكتب توريس للمحاماة في السلفادور: “هل سيؤتي هذا الرهان ثماره؟ لا نعرف حقا في الوقت الحالي. وأضاف: “لماذا تستثمر في البيتكوين في الوقت الذي توجد فيه مدارس ناقصة، أو طرق لم تُنشأ، أو جسور يلزم إصلاحها؟ هذا هو التعليق المعتاد للأشخاص الذين يعارضون قرار الرئيس.”

لقد أظهرت أسواق العملات الرقمية قدرةً غير عادية على البقاء، ونجت من عدة تجارب جعلتها على وشك الموت في الماضي، مثل الهبوط بنسبة 30% في يوم واحد في العام الماضي كرد فعل على إجراءات تنظيمية صارمة اتخذتها الصين.

ولكن من غير المرجح أن تؤدي التقلبات الأخيرة إلى إقناع المؤسسات الاستثمارية المتحفظة أصلاً بالدخول. يقول محللون في شركة “يو بي إس” هذا الأسبوع: “يبدو أن قضية اعتماد المؤسسات للعملات الرقمية تتراجع يوماً بعد يوم، فالمجال لا يوفر ملاذاً آمناً، بل تنويعاً سلبياً فقط عبر مخاطر غير اعتيادية”.

ويشير التقلب الأخير إلى أن العملات الرقمية بدلاً من أن تشق طريقاً نحو بناء نظام مالي لامركزي جديد، من المرجح أن تظل طريقاً لرهانات الثراء السريع للمستثمرين الذين يتحملون مخاطر عالية.

قال هيون شين، الذي يترأس القسم النقدي والاقتصادي ببنك التسويات الدولية، الشهر الماضي: “نعتقد أن العملات الرقمية ستواجه صعوبة بالغة في الاستمرار في النظام النقدي المستقبلي. وأعتقد أنها أقرب في سماتها إلى أصول المضاربة”.

حقوق النشر محفوظة لشركة فاينانشال تايمز المحدودة 2022