دينا عبد الفتاح تكتب..سداد حساب وزارة المالية المكشوف بإجمالى 2 تريليون جنيه ضرورة ملحة لمكافحة معدلات التضخم

«أتمنى أن ننظر إلى الأوضاع الاقتصادية لمصر بشكل يتمتع بالموضوعية والبُعد عن المبالغة فى التقديرات التى تفقد المكاسب الحقيقية مصداقيتها.. لذا دعونى أبدأ مقال هذا الأسبوع بوضع وصف حقيقى للمكاسب المالية والنقدية التى تحققت خلال الأيام الماضية، وعلى رأسها استعادة الثقة فى خطوات الإصلاح من جانب المؤسسات الدولية والمستثمرين الأجانب، وأقول إن هذه المكاسب ما هى إلا خطوة فى طريق طويل من الإصلاحات الصعبة لتحقيق استقرار اقتصادى منشود.. بداية طريق شاق عنوانه الرئيسى «دولة قادرة على توفير مصادر دخل تغطى جميع التزاماتها».


إن قبلة الحياة تنتهى آثارها بمجرد عودة الحياة مرة أخرى لجسد المريض لتتحدد مدى كفاءته الصحية بعد هذه اللحظة وفقًا لإجراءات يقوم بها المريض نفسه لتوفير حياة أكثر استقرارًا.. هذا الأمر ينطبق بشكل كامل على الاقتصاد المصرى.. فـ«صفقة رأس الحكمة» بما لها وما عليها.. هى المعجزة التى أنعشت جسد الدولة المصرية.

من خلال توفيرها، بشكل عاجل، السيولة النقدية المطلوبة لإجراء «تعويم مدروس» مبنى على نتائج مستقبلية مستهدفة تتصدرها فكرة «إتاحة العملة الأجنبية» داخل مسارات الدولة الرسمية.. فإتمام هذ الصفقة فتح الأبواب لتدفقات نقدية ضخمة من مختلف المسارات، فى مقدمتها: إرسال إشارات إيجابية تفتح شهية الاستثمار الأجنبى للمشاركة فى عمليات بيع أصول الدولة بقيمة مستهدفة تتجاوز 6.5 مليار دولار خلال العام الحالى.

أتصور أن هذا المسار سيشهد تفعيلا أكبر فى المرحلة المقبلة مع الإشارة القوية التى قدمتها صفقة «رأس الحكمة» بقيمة أولية 150 مليار دولار، عن حجم المكاسب التى يمكن أن يحققها المستثمرون داخل السوق المصرية سواء من خلال شراء الأصول القائمة أو تدشين استثمارات وتوسعات جديدة.

لا تقف أهمية هذه الاتفاقيات فقط عند حدود أنها إقراض ميسر بآجال أكثر مرونة بالنسبة للاقتصاد وتكلفة أقل، لكنها تمثل شهادات ثقة فى أن الاقتصاد بدأ فى استعادة التوازن.

المسار الثالث قادم من القرار الجرىء للبنك المركزى برفع سعر الفائدة 600 نقطة أساس دفعة واحدة ما جعل العائد على الجنيه جاذبًا للغاية للأموال الساخنة (الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة فى أذون وسندات الخزانة)، وبدأنا نرى تدفقات قوية متتالية خلال الأيام الماضية لتتجاوز العروض على الطرح الأخير من أذون الخزانة أجل عام قيمة 400 مليار جنيه بالمقارنة بقيمة الطرح البالغة 30 مليارًا فقط.

هناك أيضًا تحويلات المصريين بالخارج التى بدأت تعود تدريجيًّا لمستوياتها الطبيعية وعبر المسارات الرسمية بالبنوك وشركات الصرافة بعدما كانت قد تسرّبت للسوق السوداء بفعل سماسرة الأزمات، المسارات السابقة إلى جانب صفقة «رأس الحكمة» ستوفر لمصر ما يزيد على 50 مليار دولار، كافية لسداد الفجوة التمويلية للسنوات الأربع أو الخمس المقبلة.

كل العوامل السابقة تمثل مسارات شكّلتها صفقة رأس الحكمة.. وهذا ليس من منظور شخصى، وإنما رؤية قدمتها واحدة من أهم مراكز البحوث العالمية، معهد تشاتام هاوس والمعروف رسميًّا باسم المعهد الملكى للشؤون الدولية، والذى يعد النسخة البريطانية من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية.. هذا المعهد وصف ما حدث فى مصر بأن «الحظ» لعب دورًا كبيرًا، قائلا إنه «عندما يتعلق الأمر بالأزمات المالية فإن تدخل الحظ يشكل سلعة ثمينة به ومصر لديها الكثير منه».

المعهد أضاف أن استثمارًا بقيمة 35 مليار دولار من دولة الإمارات العربية وزيادة قدرها 5 مليارات دولار فى قرض صندوق النقد الدولى، الاثنين معًا يشكلان نحو 10% من الناتج المحلى الاجمالى لمصر البالغ 400 مليار دولار، هذا الأمر سيقطع شوطُا طويلا فى معالجة نقص الدولار على المدى القصير ويجنب مصر مخاطر التخلف عن سداد التزاماتها بالعملات الأجنبية.

بينما يرى المعهد أنه على المدى الطويل، فإن هذه الأمور ليست كافية لوضع الدولة فى مكانة أفضل إلا إذا كان صناع السياسات يتمتعون بالمهارة وليس مجرد الحظ.. ورغم التزام الحكومة ببعض الإصلاحات المهمة مقابل كل السيولة الدولارية التى دخلت، فمن المبالغة أن نتصور أن الزخم المطلوب وراء برنامج الإصلاح سيستمر، لأن الأمر من وجهة نظر المعهد لا يقتصر على الفكرة القائمة على أن «عملة مستقرة هى وسيلة فعالة لإظهار بلد مستقر».

فالأمر يجب أن يتجاوز هذا إلى إصلاحات بنيوية حقيقية وهذا يعيدنا إلى السؤال الرئيسى الذى يطرحه هذا المقال: كيف سنوظف كل نتائج المسارات الإيجابية الراهنة الموجودة حاليًّا على المدى القصير «قبلة الحياة» فى الانتقال إلى انتعاش اقتصادى مستدام على المديين المتوسط والبعيد. وهذا بالتحديد ما أتمنى أن نتخذ جميع الإجراءات للبدء فى تنفيذه من الآن.. الزخم المطلوب وراء برنامج الإصلاح يجب ألّا يتوقف عند حدود تحرير سعر الصرف، بل يتجاوز ذلك ليصبح الدولار الأمريكى متوافرًا بشكل مستدام من خلال إمكانات الدولة الذاتية. وهذا الهدف ليس بسهولة كتابته، لأنه يتطلب تغييرًا شاملًا فى منظومة أولويات الاقتصاد المصرى

تتصدرها المستهدفات التالية..

أولا: استهداف التضخم بخطة متكاملة تشارك فيها جميع مؤسسات الدولة، فالتضخم هو العدو الأول للتنمية الاقتصادية والمستثمرين وأصحاب المدخرات، وهنا لا يفوتنى التنبيه إلى أهمية منح وزارة المالية الأولوية التامة فى الاستفادة من حصائل النقد الأجنبى، سواء من رأس الحكمة أو غيرها، فى سداد الحساب المكشوف لصالح البنك المركزى الذى يبلغ نحو 2 تريليون جنيه.. هذا الحساب الذى يُعد أبرز أسباب معدلات التضخم المرتفعة فى الوقت الراهن، نتيجة استخدامه فى تمويل عجز الموازنة.

ثانيًا: منح الاستقلالية الكاملة للبنك المركزى وتحريره من قيود عجز الموازنة وما تفرضه على صانع السياسة النقدية من عدم قدرة على التحرك بحرية كاملة.

ثالثًا: استعادة ثقة الاستثمار الأجنبى المباشر بتمكينه من تحويل مستحقاته بشكل لحظى وهو المكون الرئيسى لمنظومة شروط الاستثمار الأجنبى فى أى دولة، وألا يتم تأجيل هذا الأمر لصالح أى اعتبارات أخرى.

رابعًا: وضع توفير السيولة المطلوبة لاستيراد مدخلات الإنتاج ومتطلبات استكمال المشروعات الصناعية التى لها قدرة على التصدير، فى مقدمة أولويات الدولة، مع تأجيل توجيه أى سيولة نقدية جديدة فى مشروعات البنية التحتية والاكتفاء بإتمام أعمال المشروعات الراهنة للاستفادة بعوائد الاستثمار الخاصة بها فى انتعاش الاقتصاد.

خامسًا: وضع سياسات تحوط ضد مخاطر الأموال الساخنة، فى مقدمتها ضوابط الدخول والخروج، دون أن تحدث أى آثار سلبية مفاجئة توقع البلاد فى أزمات من شأنها عرقلة مسار الإصلاحات، مع توخى محاذير استخدام هذه الأموال كأحد مكونات الاحتياطى الأجنبى.

سادسًا: العمل بفكر المكاسب الاقتصادية السريعة من خلال تدعيم، كل الدعم، مشروعات الإحلال للمنتج المحلى مقابل المستورد.

سابعًا: الاستعانة بالكوادر وأهل الخبرة فى مختلف الوظائف والمصالح الحكومية وتطبيق أنظمة إدارية متطورة فى طرق المتابعة والرقابة والتقييم.

ثامنًا: فتح جميع المجالات أمام الاستثمار الخاص الجديد بداية من المشروعات متناهية الصغر، مرورًا باستثمارات ريادة الأعمال، ثم المشروعات المتوسطة وكبيرة الحجم وتذليل كل الإجراءات المطلوبة لإقامة هذه الاستثمارات دون أى عناء.

تاسعًا: إلزام السياحة بخطة لمضاعفة أعداد السائحين لتحقق موارد دخل بالعملة الأجنبية تتناسب مع وضع مصر كواحدة من أهم الدول الجاذبة للسياحة فى العالم بما تمتلكه من ثلث آثار العالم وأكبر شواطى ومزارات دينية وعلاجية..

عاشرًا: اتخاذ جميع السياسات التشجيعية لتحفيز المصريين العاملين بالخارج على تنفيذ التحويلات من خلال المسارات الشرعية للاقتصاد.

الحادى عشر: الالتزام التام بتطبيق قوانين اقتصادية لضبط الأسواق وحماية المستهلكين والتصدى للاحتكار، ومقابلة الجشع.. تلك الأمور التى لم يعد المواطن بإمكانه احتمالها بأى شكل من الأشكال فى الوقت الراهن.

أخيرًا: ليتصدر كل من التعليم والصحة مقدمة الأولويات جميعًا كركيزة أساسية ليس فقط فى بناء اقتصاد ناجح ولكن فى الحفاظ على قوة الدول. لذا فإن الاستثمار فى منظومة البنية البشرية لا بد من أن يتصدر جميع الأولويات على الإطلاق. إن استعادة الثقة فى قدرات الاقتصاد على التمويل الذاتى وتوفير مصادر الدخل المطلوبة لتحقيق الرفاهية لحياة أفراده ليست بالمهمة السهلة، ويجب ألا نتوقعها فقط من خلال بعض القرارات المهمة مثل تحرير سعر الصرف أو خروج البضائع من الموانئ أو حتى فى زيادة رواتب العاملين بجميع قطاعات الدولة لمقابلة التضخم.

وإنما يتم من خلال معركة طويلة الأجل تحكمها خطة اقتصادية محددة الأولويات والنتائج تضع نصب أعينها تحقيق دوران العجلة بلا توقف أو معاناة.. لقد تحمل الشعب المصرى الكثير على مدار العقود الماضية، وآن الآوان ليتمتع بجنى الثمار دون تأجيل أو قوائم انتظار جديدة..

 

دينا عبد الفتاح
منقولة عن صحيفة المصري اليوم