المصدر:وكالات
عام 2006، أطلق عالم الرياضيات البريطاني كليف هامبي مقولته الشهيرة: “البيانات هي النفط الجديد، وهي ما ستدفع الاقتصاد قدماً خلال العقود المقبلة”. يبدو أن السعودية، التي تتصدر تاريخياً صناعة النفط، تتطلّع إلى المستقبل وِفق هذه المقولة، ما يفسر الإصرار على تطوير صناعة البيانات والخدمات السحابية، بحيث تصبح مساهماً رئيسياً في رؤية تنويع الاقتصاد، ولتضع بصمتها على خريطة القطاع في المنطقة وفق تقرير للشرق بلومبرج.
حتى تصبح البيانات مفيدة تجارياً واقتصادياً، فإنها تحتاج إلى الكثير من الاستثمارات، وهو ما ينعكس على أرض المملكة من خلال إنشاء مراكز البيانات العملاقة، وإطلاق الخدمات السحابية، وتبني كبرى الشركات لهذه الخدمات، وصولاً إلى التحول نحو الاقتصاد الرقمي.
هذا التوجّه ظهر جلياً في الآونة الأخيرة، حيث أعلنت العديد من الشركات، وفي مقدمها “أمازون” و”داتا فولت”، خلال مؤتمر “ليب 24” هذا الشهر في الرياض، عن استثمارات تفوق 11 مليارات دولار، لبناء مراكز بيانات ضخمة داخل المملكة، من ضمنها 10 مليارات حصة الشركتين العملاقتين لوحدهما. هذه الاستثمارات تطرح تساؤلاً حول الدوافع التي تقف خلف ضخ هذه الشركات الأموال في السعودية التي تعتبر سوقاً ناشئة في هذا المجال.
الدافع الأبرز للاستثمار بهذه المراكز يتمثل بمصادر الطلب المتنوعة في أكبر اقتصاد بالمنطقة، وفقاً للشريك المتخصص بالتحول السحابي في شركة الاستشارات “بي دبليو سي” (PWC) مينا غبور.
وأشار في مقابلة مع “الشرق”، إلى أن أحد محرّكات الطلب الرئيسية “يتمثل بالمنشآت والمشاريع الحكومية الجديدة في المملكة، على غرار “نيوم” المدينة المستقبلية الذي يتمّ تأسيسها بشكل كلّي في السحابة”.
غبور أوضح أن مثل هذه المدن الجديدة لن تتبع الطريقة التقليدية في التعامل مع البيانات، حيث تفضل بناء منشآت استضافة البيانات الخاصة بها، بالإضافة إلى توجهها منذ اللحظة الأولى إلى تبني الحلول الأكثر تطوراً وأمناً.
“نيوم” ليست مثالاً وحيداً، فشركة النفط العملاقة “أرامكو” استثمرت الكثير من الأموال لتعزيز التحول الرقمي والخدمات السحابية المدعومة بالذكاء الاصطناعي. وأحدث خطواتها نحو هذا التحول، الكشف خلال “ليب 24” عن نموذج لغوي ضخم خاص بها (على غرار Chatgpt)، تمّ تدريبه على بيانات الشركة بحيث يساعد الموظفين على أداء المهام اليومية والحصول على المعلومات من “السحابة” الخاصة بالشركة.
إضافةً إلى المشاريع الجديدة، فإن أحد محركات الطلب يتمثل بتوجه العديد من مؤسسات الحكومية وشبه الحكومية إلى تبنّي الخدمات السحابية، لاسيما أن “البنية التحتية الرقمية للكثير من هذه المؤسسات تعاني التقادم، ويعمل بعضها على برامج يعود عمرها إلى 20 أو 30 سنة”، وفق غبور.
ويدعم تسريع هذا التحوّل ارتفاع التكاليف الناتجة عن تقادم البنية التحتية، فكلفة النموذج القديم لاستضافة البيانات والمحافظة عليها وصيانتها، أعلى من نظيره القائم على الخدمات السحابية، ذات المرونة والقدرة على التحكم بالكلفة.
هذا الطلب المتنامي أغرى حتى شركات تعمل تاريخياً بمجال العقارات لدخول هذه السوق، على غرار شركة “داماك” الإماراتية التي خصصت 600 مليون دولار للاستثمار بتطوير مراكز بيانات في السعودية.
لكنه في الوقت عينه، أدّى إلى زيادة المتطلبات الحكومية المتعلقة بأمن البيانات، التي تلزم الشركات باستضافة مراكز هذه البيانات والخوادم على أرض المملكة والتعامل مع المعلومات الناتجة وفق قوانينها، وفرض معايير مشدّدة للتعامل مع هذه البيانات لناحية تصنيفها بين ما هو عام وما هو سري وما هو سري للغاية.
القطاع الخاص بدوره يشكّل محرّكاً رئيسياً لزيادة حجم الطلب، فوفقاً لدراسة أعدتها “بي دبليو سي”، فإن 60% إلى 70% من المؤسسات التي شملتها الدراسة، أطلقت بالفعل رحلة التحول السحابي أو تخطط لاختبارها قريباً.
نتائج الدراسة مثّلت دليلاً إضافياً على الإقبال على الخدمات السحابية من قٍبل القطاع الخاص، إذ سبقها مسح نفذته الهيئة العامة للإحصاء لأول مرة في 2023، بيّن زيادة مساهمة الاقتصاد الرقمي في الناتج المحلي الاجمالي للمملكة، ليصل عام 2022 إلى 14%. كما بلغت نسبة المنشآت التي قامت بشراء خدمات الحوسبة السحابية 48% من إجمالي المؤسسات العاملة في السعودية.
لا تقف الخدمات السحابية ومعالجة البيانات عند حدود سوقها الرقمية فحسب، بل تمتد إلى العديد من القطاعات. ويقدّر غبور أن “استثمارات الشركات في المملكة بهذا المجال ستتجاوز 10 مليارات دولار بحلول 2030، لكنها ستولّد استثمارات بمضاعف 1.5 مرّة في قطاعاتٍ مرتبطة”، ما يرجّح وصول قيمة سوق الخدمات السحابية في السعودية بنهاية العقد إلى نحو 25 مليار دولار.
هذا النمو المرتقب، دفع الشركات العالمية إلى القدوم للمملكة والاستثمار في مثل هذه القطاعات المرتبطة، ومن ضمنها عملاقة الاتصالات الصينية “هواوي”، التي أفصح رئيسها التنفيذي في السعودية إريك يانغ، بمقابلة سابقة مع “الشرق”، أن شركته التي بدأت رحلة الاستثمار في البلاد منذ عقدين؛ “باتت تقدّم حزمة كاملة من الحلول الرقمية والمعدات المواكبة لعالم الخدمات السحابية”.
وأكّد رئيس الشركة، التي تخطط لاستثمار 400 مليون دولار في السعودية، أن التكنولوجيا والبيانات ستكون أساساً لاقتصاد المملكة في المستقبل، مبرزاً أهمية الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا التحليلية في هذه المسيرة.
من جهته، ينوّه أيمن البطاوي، من شركة “بيكسبرت” البريطانية للخدمات السحابية، بوجود إقبال ملحوظ من القطاع الخاص السعودي على الخدمات السحابية والبيانات. مضيفاً في تصريح لـ”الشرق” أن الشركة اتخذت في الرياض مقراً إقليمياً “نظراً لانفتاح السوق بشكل كبير في الآونة الأخيرة، وهو ما سبب فورة في الطلب على الخدمات السحابية، التي تتميز بأنها متنوعة وتخدم مختلف القطاعات”.
طريق تبني الخدمات السحابية والاستفادة من البيانات ليست سهلة، إذ تشوبها العديد من التحديات.
ويلفت غبور، من “بي دبليو سي”، إلى أن أبرز هذه التحديات تتمثل في “المعرفة التقنية، وكيفية تقييم واختيار التكنولوجيا والمنتج الذي يناسب مؤسسة بعينها”. منبّهاً إلى أن “الكثير من الشركات تغفل عن الالتفات إلى الإدارة المالية للخدمات السحابية، والتي تتطلب الكثير من المعرفة بهدف الحفاظ على كلفة هذه الخدمات تحت السيطرة”.
التحدي الإضافي، بحسب غبور، هو “صعوبة إيجاد المواهب القادرة على فهم كيفية وتصميم هذا النوع من التقنيات، وفي ظلّ متطلبات حكومية محدّدة على مقدّمي هذه الخدمات”.