بقلم :الدكتور بهاء الدين نائب رئيس الوزراء الأسبق
بعد انتظار طويل، وتكهنات وشائعات أطول، جاء التغيير الحكومى أكبر بكثير مما كان متوقعا. وتبع ذلك قيام السيد رئيس مجلس الوزراء- الاثنين الماضى- بعرض برنامج حكومته للسنوات الثلاث القادمة أمام مجلس النواب، متضمنا وعودا كبيرة من خلال أربعة محاور: (الأمن الوطنى، وبناء الإنسان، والإصلاح الاقتصادى، ثم الانفتاح السياسى). فهل نحن فعلا، كما تردد على لسان بعض المعلقين، «على أعتاب مرحلة جديدة»، أم أن التغيير سيكون شكليا ونستمر فيما كنا عليه؟.. هذا هو السؤال الجوهرى الذى يدور فى الأذهان، فدعونا ننظر فى مضمون التغيير ثم فيما حمله من رسائل اقتصادية.
التغيير كان أكبر مما كان متوقعا من عدة أوجه: (1) أن عشرين وزيرا جرى تبديلهم مرة واحدة، بينما لم يبق سوى عشرة وزراء سابقين
(2) إنه شمل وزارات بالغة الأهمية، على رأسها الدفاع، والخارجية، والعدل، والمالية، والتعليم، والبترول، والكهرباء، والزراعة، والسياحة.
(3) إنه لم يقتصر على الوزراء بل صاحبته حركة محافظين واسعة النطاق.
وعلى الجانب الاقتصادى، ظهرت وجوه جديدة ذات مكانة علمية ومهنية رفيعة لتولى وزارات المالية والبترول والتضامن الاجتماعى، بجانب وزارة الاستثمار العائدة بعد غياب طويل. فإذا أضفنا إليها – من خارج التعيينات الجديدة – محافظ البنك المركزى ووزيرة التعاون الدولى ورؤساء هيئات الرقابة المالية والاستثمار والمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، فإننا نكون أمام مجموعة اقتصادية متميزة ومتجانسة وذات اتجاه إصلاحى. وأتصور أن تبعث رسالة إيجابية للمجتمع الدولى والمستثمرين الأجانب بأن التغيير والإصلاح قادمان.
ولكن فى مقابل هذه الرسالة الإيجابية، فإن التغيير الحكومى حمل معه رسائل أخرى مختلفة، وللأسف متناقضة مع ما سبق، رسائل بأن التغيير لن يصاحبه عدول عن المسار الذى دفع بنا للأزمة الاقتصادية التى لانزال نعانى من تبعاتها.
وقد دعم هذه الشكوك:
(1) أن البرنامج المقدم للبرلمان بدا تكرارا لما قيل من قبل واستمر فى تأكيد أن الأزمة الاقتصادية كانت بسبب عوامل خارجية ليس السياسات الداخلية الخاطئة.
(2) استمرار الانطباع السائد بأن الحكومة مجرد منفذ، وبالتالى فلن يكون للوزراء الإصلاحيين الجدد الفاعلية الكافية لتغيير المسار.
(3) عدم تعيين وزير مختص بملف الصناعة، وهو بلا شك الملف الأكثر أهمية فى المرحلة القادمة والأكثر احتياجا للتحرر من سيطرة الدولة ومنافستها غير المتكافئة.
(4) إن دخول وزراء إصلاحيين قابَلَه خروج وزراء آخرين فى المجال الاقتصادى كان مشهودا لهم بالكفاءة والتوجه الإصلاحى، ومنهم (مثالا لا حصرا) السياحة والتخطيط والبترول.
(5) والرسالة الأهم أن الدولة لم تتراجع عن تدخلها فى قطاعات «الاقتصاد الحقيقى» (الصناعة، الزراعة، السياحة، الإسكان)، حيث المشاكل الحقيقية، وبالتالى الحاجة الأمس للإصلاح والتغيير.
الرسائل الصادرة عن التغيير الحكومى الأخير جاءت إذن متناقضة، والبرنامج الحكومى تضمن وعودا كبيرة فى كل المجالات، لكن دون إشارة لتغير السياسات والبرامج اللازمة لتحقيق هذه الأهداف النبيلة التى لم تتحقق سابقا أو لمصادر التمويل المتاحة للإنفاق عليها دون زيادة الدين العام الذى تضاعف فى السنوات الأخيرة (للدقة فإن السيد رئيس مجلس الوزراء أشار فى خطابه إلى برنامج حكومى تفصيلى من ثلاثمائة صفحة، لم يكن قد صدر حتى كتابة هذه السطور).
مع ذلك فإننى لا أحب إصدار أحكام نهائية مبكرا، وأتمنى أن أكون مخطئا فى مخاوفى وتحفظاتى، ومستعد لتصديق أن هناك نية للتغيير الحقيقى فى الإدارة الاقتصادية لأنه ليس أمامنا سوى التفاؤل والتفاعل ودعم ومساندة كل جهد إصلاحى، ورهاننا يجب أن يظل دائما على نجاح البلد لا فشله.
ولكن إن كانت الدولة تريد استعادة ثقة الناس، فإن عليها الخروج من حالة الغموض والتردد، وانتهاج مسار إصلاحى واضح وصريح لا لبس فيه ولا رسائل متناقضة، والتوقف عن أسلوب التقدم خطوة والرجوع خطوتين. فالإصلاح لن يكون حقيقيا إلا إن كان كاملا وعميقا وشاملا لكافة القطاعات الاقتصادية المنتجة.