د.محمد راشد يكتب : توظيف مبادئ الاقتصاد الدائري في التطوير العقاري..وتعزيز الأثر البيئي لصناعة العقار

بقلم د.محمد راشد

نظراً للتداعيات السلبية التي نجمت عن النموذج التقليدي أو ما يسمي “الاقتصاد الخطي” ظهر نهج جديد للاقتصاد يسمي ”الاقتصاد الدائري” فهو مخالف تماماً عن مفهوم الاقتصاد الخطي، حيث كان الهدف من النموذج الجديد الحد من التدهور البيئي الذي يسببه النموذج الخطي، وحظي نموذج الاقتصاد الدائري شهرة كبيرة جداً كمنهج مستدام يقلل من الآثار السلبية التي تعاني منها الدول حالياً المتقدمة والنامية علي حد سواء مثل التغيرات المناخية والتلوث.

أصبح ينظر إلى الاقتصاد الدائري على أنه نموذج اقتصادي جديد قادر على خلق قيمة مضافة من النفايات، وجعل العمليات الاقتصادية أكثر كفاءة واستدامة من خلال إطالة دورة الحياة بإعادة استخدام النفايات أو إعادة تصنيعها أو إعادة تدويرها بمساعدة الاقتصاد الدائري.

وحظي الاقتصاد الدائري باهتمام كبير باعتباره أداة للتوفيق بين التنمية الاقتصادية والاستدامة البيئية، و تشير مؤسسة” إلين ماك آرثر ” بأن الاقتصاد الدائري نموذجاً اقتصاديا متميزا يقوم على خلق طاقات جديدة عن طريق إعادة استخراج الموارد من منتجات مستخدمة انتهت عمرياً وأصبحت نفايات واستخدامها في منتجات أخرى بواسطة إعادة تدويرها، مما يساعد في خلق منافع اقتصادية وبيئية أكثر من الاقتصاد الدائري ،حيث يتضح أن الاقتصاد الدائري أكثر استدامة ويتوافق مع مبادئ التنمية المستدامة.

ويعرف الاقتصاد الدائري في جميع مراحله بأنه نظام اقتصادي للإستهلاك والإنتاج يهدف في جميع مراحه الحفاظ علي كفاءة استخدام الموارد والحفاظ علي البيئة، فليس الهدف من الاقتصاد الدائري التخلص من النفايات فحسب بل تحويلها إلي مادة وسيطة ذات قيمة مضافة بدلاً من كونها مخلفات ذات تأثير سلبي علي النظام البيئي.

ومع تزايد نسب الوعي بمفهوم الاستدامة وحمايِة البيئة ومحدودية موارد كوكبنا وسعينا الدائم إلى تقليل الاستهلاك واللجوء إلى البدائل التي تعد صديقة للبيئة – يعمل الاقتصاد الدائري – كنظام يسعى إلى القضاء على الهدر وتعزيز الاستخدام المستدام للموارد بدلًا من اتباع نمط الاستهلاك الخطي الذي يركز على فكرة ” إنتاج ثم استخدام ثم إتلاف” هذا النوع من الأنماط الاستهلاكية الذي ينمو بمعدلات متسارعة يهدد من استدامة النظم البيئية ويٌعرض الأجيال القادمة لخطر نقص الموارد.

وكما يقول الكاتب الأمريكي “هنري ديفيد ثورو”:”إنّ الأرضَ لا تُورّثُ لأبنائنا، بل نستعيرُها من آبائنا.” ولذا فإن الاقتصاد الدائري كنظام يركز على إعادة استخدام المواد وإعادة تصنيعها وإصلاحِها، ممّا يُقلّلُ من استهلاك الموارد الطبيعية ويُخفّف من وطأةِ التلوث على البيئة.

وفيما يتعلق بتوظيف مبادئ الاقتصاد الدائري في التطوير العقاري ، و تعزيز الأثر البيئي لصناعه العقار ؛ فإن القطاع العقاري يساهم بدور محوري في مساندة المساعي العالمية المبذولة في معالجة التغيّر المناخي، خاصةً وأن نحو 70% من الانبعاثات الكربونية في المدن الكبرى ناتجة عن المباني فيهاً، ويعكس إتباع هذا النمط الاقتصادي من قبل صناع العقار ، مدي إلتزامهم بمعالجة القضايا والتحديات البيئية والمجتمعية والحوكمة في القطاع العقاري، بل ويُعد إنجازاً غير مسبوق ؛ إذا ماتمت مراعاته في كافه المشروعات العقاريه التي يتم تدشينها ؛ فعلي سبيل المثال تصل نسبة استهلاك صناعة البناء من إنتاج الصلب العالمي حوالي %50؛ و٣ مليارات طن هي الكمية المقدرّة للمواد الخام التي تستخدم كل عام لتصنيع منتجات البناء في جميع أنحاء العالم ،.

في الولايات المتحدة الأميركية، تبلغ نسبة النفايات الصلبة المستمدة من عمليتي البناء والهدم حوالي ٤٠%، وهي بلاشك نسبٌ لا يستهان بها، والأخطر، ان هذه النفايات تشكل خسارة كبيرة للمعادن والمواد الأولية، وقد بيّن تقرير المنتدى الاقتصادي إنّ اقل من ثلث نفايات البناء والهدم يتمّ إستردادها فقط وإعادة إستخدامها، ومع تزايد عدد السكان سيستمر قطاع البناء في التأثير على طرق إستخدام موارد العالم.

إن التساؤل الأهم هنا ، هو كيف يمكننا تغيير الطرق التي تتعامل بها صناعة البناء مع النفايات ، و الجواب الأمثل هو اعتماد مبادئ الاقتصاد الدائري أو الإقتصاد المغلق للمواد في البناء، والاقتصاد الدائري في البناء ليس فكرة جديدة وهو لا يقتصر فقط على إعادة تدوير المواد المستخدمة في البناء؛ بل إنّه يتضّمن استخدام الموارد بشكل أفضل، وإسترداد المواد بشكل كامل بدلًا من إهدارها، ومنع التلوث من خلال تصميم منتجات ومواد بشكل أفضل وإعدادها للإستخدام لفترة طويله ، حيث إنّ ركائز بناء الاقتصاد الدائري يعتمد على تعطيل العمليّات الخطيّة التقليديّة للإنتاج والإستهلاك وإدخال مبادئ التصميم من المهد الى المهد، وإعادة إستخدام المواد أو إعادة تدويرها ، و مبدأ من المهد الى المهد هو تصميم يستمدّ الإلهام من الطبيعة حيث لا يوجد ما يُسمى نفايات، ويحافظ على دورات العمل التقنيّة والبيولوجيّة بإستخدام مواد معينة، صحيّة، أو مواد قابلة للتدوير دائمًا لإغلاق الحلقات واستخلاص الطاقة من المخلّفات.

ويشجّع التفكير الاقتصادي الدائري نماذج الأعمال، والتصميمات، والدورات العكسيّة، ويرتبط بالمُثل البيئيّة للقضاء على النفايات والإنبعاثات خاصةً الدفيئة منها لضمان المرونة البيئيّة، و يشير تقرير المنتدى الإقتصادي العالمي أنّه من خلال تسخير طاقة قطاع البناء يمكن خفض الانبعاثات بشكل فعّال وتحقيق وفورات في الطاقة تزيد عن ٣٠%، وفقًا لبرنامج الأمم المتّحدة للبيئة.

كما أن هناك رابط وثيق يجمع كل من الاقتصاد الدائري ونسب الكربون المتجسّد في عملية البناء. فما هو الكربون المتجسّد ، حيث انّ الكربون المتجسّد هو كمية انبعاثات الكربون المتضمنة في المواد نفسها وعمليّة البناء خلال دورة حياة المبنى. والمؤسف تجاهل هذه الانبعاثات علمًا أنّها تسجّل نحو 60 % من انبعاثات المبنى خلال دورة الحياة، و تجدر الإشارة، أنّ الكربون المتجسّد مسؤول عن نسبة 11 % من مجمل الإنبعثات العالمية ، وللسيطرة والحد من هذه الانبعاثات والمساعدة في تحقيق مستقبل صفر كربون، دعا المجلس العالمي للأبنية الخضراء إلى ضرورة تخفيض 40% من نسبة الكربون المتجسّد بحلول العام 2030 لكل المباني الجديدة.وللوصول لهذا الهدف يمكن اعتماد عناصر الاقتصاد الدائري في البناء التالية ، منها تقليل الاستخدام: ، حيث إنّ معظم عناصر البناء كالاطارات والاساسات تشكل النسبة الأكبر من الكربون المتجسّد لما تتضمنه من مواد الاسمنت والصلب، لذا يجب تقليل إستخدام هذه المواد في البناء أو إعادة إستخدامها ، وكذلك استخدام مواد جديده، حيث يجب استخدام مواد جديدة في البناء بحيث تتميز بنسب قليلة من الكربون المتجسّد ويمكن إعادة تدويرها او استخدامها ، هذا بالاضافه إلي وضع سيناريوهات مستقبلية للمباني .

لذا يجب أن يكون تصميم المباني مرن للتكيّف مع المستقبل حيث بالإمكان صيانة المباني وتحديثها وإصلاحها واعادة إستخدامها بطرق مستدامة .

كما أن هناك بعض الأمثلة عن اعتماد عناصر الاقتصاد الدائري في البناء مثل إعادة استخدام الأرضيات أو الطوب من موقع إلى موقع آخر ، و تحويل النفايات إلى طاقة مثلًا تحويل براز الجمال إلى وقود لتشغيل مصانع الإسمنت في رأس الخيمة ، وتحويل مخلّفات البناء الى موارد في صناعات أخرى ، وعلى الرغم من وجود العديد من حملات التوعيّة بشأن إعادة التدوير والحد من المخلّفات، إلّا إنّ تلك التي تستهدف الصناعات خصوصًا قطاع البناء ما زالت متواضعة نسبيًّا، و يقف العنصر المادي عائقًا أمام تحقيق الاقتصاد الدائري لندرة وجود التمويل والبنى التحتية المخصصة للتحول إلى إقتصاد دائري مستدام.

وعلى سبيل المثال، فأنه بإعتماد الاقتصاد الدائري المستدام ستحقق دول مجلس التعاون الخليجي وفورات تقدّر ب ١٤٠ مليار دولار في ٢٠٣٠ ، لذا يجب وضع تشريعات جديدة، حازمة وحاسمة التي من شأنها تفعيل الإقتصاد الدائري للحد من النفايات، كما يجب أن يكون هناك وعي عام ينطلق من مبدأ انتقاء المواد التي يمكن إعادة تدويرها أو إستخدامها في كافة المجالات الاقتصادية خاصة البناء ، وهو ما سيعود بفوائد اقتصادية وبيئية شتّى والمطلوب ارادة قوية وعمل جدّي لاعتماد اقتصاد دائري فيها ؛ لذا هيّا نرسم بخطى ثابتة طريق الإستدامة عبر تحويل الاقتصاد الخطي إلى دائري مستدام.

مما لا شك فيه أن تطبيق هذا النموذج سيحقق فوائد عديدة منها، على سبيل المثال لا الحصر، تعزيز الاستخدام الرشيد والفعال للموارد، والحد من زيادة الطلب على الموارد المحدودة، إضافة إلى تحسين مرونة سلاسل التوريد، وتعزيز النمو الاقتصادي. هذا ومن المتوقع أن يسهم التحول نحو الاقتصاد الدائري في خلق فرص نمو عالمية تصل قيمتها إلى حوالي 4.5 تريليون دولار بحلول العام 2030.

كما زادت الأصول في صناديق الأسهم العامة التي تركز على الاقتصاد الدائري من 0.3 مليار دولار إلى ما يزيد على 2 مليار دولار، مما يُمثل قفزة نوعية بمقدار ستة أضعاف، وفقًا لما جاء في تقرير أعدته مؤسسة إلين ماك آرثر ، وعلى غرار الشركات التي تأسست رقمياً وأحدثت تغييرًا جذريًا في مجال نماذج الأعمال التقليدية، من المرجح أن نشهد ارتفاعًا في تأسيس الشركات الدائرية (أي تلك التي تأسست في ظل نموذج الاقتصاد الدائري)، ما سيُسهم في إحداث تغيّر جذري في نموذج الاقتصاد الخطي التقليدي.

وحتى يتم اتباع نموذج الاقتصاد الدائري على نطاق واسع عالميًا، يتعيّن تعزيز سبل التعاون الدولي من أجل التغلب على حواجز المرحلة الانتقالية مثل التخلي عن نماذج الأعمال التقليدية، وشطب الأصول القائمة على النموذج الخطي، وإعادة تشكيل سلاسل التوريد الحالية القائمة على النموذج الخطي.

إن التحوّل نحو الاقتصاد الدائري يستلزم إجراءات أكثر من مجرد تصميم بعض المنتجات المتميزة وإعادة تدوير النفايات، إذ أنه يتضمن تغييرًا جذريًا في العلاقات بين الشركات وعملائها، ومن هذا المنطلق، لا يمكن تغيير النموذج الخطي التقليدي إلا من خلال العمل المشترك والتعاون.

ختامًا، مستقبل بيئتنا مرهون بسلوكنا اليوم فكل فرد منّا يُمكنه المساهمة في تحقيق الاستدامة من خلال تبنّي أنماط استهلاك مسؤولة ودعم مشروعات رواد الأعمال في الاقتصاد الدائري.

كما تُمثل ريادة الأعمال في الاقتصاد الدائري شعاع أمل ينيرُ دروب المستقبل نحو عالم أكثر استدامةً وازدهارًا. فمن خلال إبداع رواد الأعمال وابتكارهم، وتعاونهم مع الحكومات والمؤسسات الداعمة، يمكنُنا تحويل هذا النموذج الاقتصادي إلى واقعٍ ملموسٍ يُحقّق التوازن بين احتياجاتنا الحالية واحتياجات الأجيال القادمه.

كما أن الجمع بين التنمية الاقتصادية و الاستدامة البيئية يتطلب حسن وكفاءة في إدارة الموارد، وذلك يتحققه الاقتصاد الدائري، وهكذا تكن العلاقة واضحة بين الاقتصاد الدائري والتنمية المستدامة، إذ يحسن الاقتصاد الدائري إدارة الموارد بشكل كبير ويرفع معدلات النمو المستدام علي الأجل الطويل، ومن هنا يصبح الاقتصاد الدائري أمر بالغ الأهمية لتحقيق الكثير من أهداف التنمية المستدامة ورؤية 2030 .

 

الدكتور محمد راشد – رئيس مجلس إدارة شركه راشد للاستشارات الماليه ودراسات الجدوي واداره الأصول العقاريه ، وعضو مجلس إدارة غرفه صناعه التطوير العقاري