بقلم د. محمد رزق
لا شك أن إعادة فرض التعريفات الجمركية التي انتهجها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ستترك تأثيرات عميقة على المشهد الاقتصادي والتجاري العالمي، نظرًا للطبيعة المتداخلة للاقتصادات العالمية وتكاملها عبر الحدود.
ففي ظل هذه السياسات، يمكن ملاحظة عدة تغييرات محتملة، من أبرزها التحول في سلاسل الإمداد العالمية؛ إذ تهدف هذه التعريفات إلى تقليل اعتماد الولايات المتحدة على سلاسل الإمداد الأجنبية، لا سيما القادمة من الصين، مما يدفع الشركات إلى إعادة توجيه استثماراتها نحو دول أخرى.
وهذا سيؤثر على حركة البضائع وأسعار المنتجات في الأسواق العالمية، إضافة إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج.
حيث أن فرض رسوم على الواردات يعني زيادة تكلفة المواد الخام والمعدات بالنسبة لبعض الشركات الأمريكية، وهو ما قد ينعكس سلبًا على المستهلكين.
هذا التوجه قد يخلق تحديات في الأسواق الدولية، خاصة إذا لجأت بعض الدول إلى اتخاذ إجراءات مماثلة، كرد فعل على التعريفات الأمريكية، مما قد يؤدي إلى اندلاع حرب تجارية شاملة تُلحق الضرر بالتجارة والنمو الاقتصادي العالمي.
ومن المؤكد أن سياسة “أمريكا أولاً” التي تبناها ترامب شجعت بعض الدول على اعتماد سياسات اقتصادية حمائية مماثلة، ما قد يسهم في تراجع مسار العولمة التجارية وتوجه الاقتصادات نحو الانغلاق.
وفي حال استمرار التوترات التجارية، ستتأثر الأسواق المالية نتيجة تحفظ المستثمرين في أوقات عدم اليقين، مما يؤثر سلبًا على الاستثمارات العالمية وأسواق الأسهم.
كما أن هذا التحول قد يعيد رسم خارطة التحالفات الاقتصادية، حيث تسعى بعض الدول إلى إقامة شراكات تجارية جديدة بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية.
فعلى سبيل المثال، تعزز الصين والاتحاد الأوروبي من علاقاتهما التجارية مع أطراف أخرى لتفادي التأثيرات السلبية للتعريفات الأمريكية.
تعد الصين الآن في صراع تجاري متصاعد مع الولايات المتحدة، ويُظهر التوسع في استخدام الرسوم الجمركية أن حتى الحلفاء التقليديين لواشنطن، كاليابان وكوريا الجنوبية، لم يسلموا من هذه الإجراءات، إذ وصفهم ترامب بأنهم “منتهكون للتجارة”.
هذا دفع الدول الآسيوية الثلاث إلى تعزيز تعاونها في شرق آسيا، مدفوعة بجوار جغرافي لا مفر منه، وبإدراك مشترك لأهمية تقوية العلاقات الجيوسياسية وتسخير الإمكانيات المشتركة لتحقيق مصالح متبادلة.
تمثل الصين، اليابان، وكوريا الجنوبية أقوى اقتصادات آسيا، وتضم 20% من سكان العالم، و23.4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ولذلك فإن تعاونها في ظل هذه الظروف يشكّل رافعة اقتصادية قوية. وفي هذا السياق، عقد كبار المسؤولين التجاريين في الدول الثلاث أول اجتماع اقتصادي ثلاثي منذ أكثر من خمس سنوات، أبدوا فيه عزمهم على تعزيز التعاون وصولًا إلى توقيع اتفاقية “تجارة حرة وعادلة وشاملة” في المستقبل القريب.
ورغم أن المفاوضات بشأن هذه الاتفاقية بدأت عام 2012، فإن التقدم ظل محدودًا، إلا أن تصاعد السياسات الحمائية من قبل الولايات المتحدة أعاد الزخم لها.
وتُعد هذه الدول من الشركاء التجاريين الأساسيين للولايات المتحدة، حيث بلغت قيمة التجارة الثنائية بين الصين وأمريكا نحو 582 مليار دولار، وبين اليابان وأمريكا 228 مليار دولار، وبين كوريا الجنوبية وأمريكا 197 مليار دولار في عام 2024، وفقًا لبيانات الحكومة الأمريكية.
وتُعد اليابان وكوريا الجنوبية من كبار مصدّري السيارات وقطع الغيار والصلب إلى الولايات المتحدة، وسجلت هذه الدول تاريخيًا فوائض تجارية كبيرة مع أمريكا.
وعلى الرغم من التوترات التاريخية والخلافات الإقليمية بينها، فقد أكد كبار المسؤولين التجاريين للدول الثلاث على ضرورة تعزيز التعاون الاقتصادي لمواجهة التحديات المستجدة وتحقيق نتائج ملموسة في مجالات حيوية.
كما شددوا على دعم نظام تجاري متعدد الأطراف، قائم على القواعد، منفتح، شفاف، وعادل، في قلبه منظمة التجارة العالمية.
مرونة سلاسل التوريد تُمثّل أولوية للدول الثلاث في ظل الاضطرابات العالمية، حيث تُكمل الموانئ الصينية وسككها الحديدية والقوى العاملة فيها قطاع التصنيع الياباني وخبرة كوريا الجنوبية في أشباه الموصلات.
وهذا يعزز من قدرات هذه الدول على بناء سلاسل توريد فعالة وآمنة.
ومن المتوقع أن تقود آسيا نصف نمو الاستهلاك العالمي بحلول عام 2030، مما يدل على الإمكانات الابتكارية الكبيرة في المنطقة.
فالصين تُنتج نصف أفضل الكفاءات في مجال الذكاء الاصطناعي عالميًا، بينما تتصدر اليابان وكوريا الجنوبية في تسجيل براءات الاختراع، مما يعزز من القوة الرقمية الإقليمية لآسيا.
أخيرًا، يُعد الترابط الاقتصادي بين الدول الثلاث حجر الزاوية في استقرار المنطقة. ففي العام الماضي، بلغ حجم التجارة بين الصين واليابان 293 مليار دولار.
وتعد اليابان ثاني أكبر شريك تجاري للصين، بينما الصين هي الشريك التجاري الأول لليابان ومصدر وارداتها الرئيسي.
كما ارتفعت صادرات كوريا الجنوبية إلى الصين بنسبة 6.6%، في حين تستثمر الشركات اليابانية بكثافة في قطاع التصنيع الصيني، وتستفيد الشركات الصينية من التكنولوجيا الكورية.
رغم هذه الأرقام الواعدة، تواجه التجارة العالمية تحديات كبيرة مع تصاعد الحمائية الأمريكية.
ويُعد تعهد الدول الثلاث بتعزيز “اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” بقيادة الصين مؤشرًا على انتقال مركز الثقل التجاري نحو آسيا، مما يمنح الصين ليس فقط مكاسب اقتصادية تُقدّر بـ88 مليار دولار، بل أيضًا نفوذًا سياسيًا واستراتيجيًا متناميًا.
لذا، فإن شراكة الصين واليابان وكوريا الجنوبية باتت اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى في ظل الحرب التجارية الأمريكية التي تُعيد رسم النظام التجاري العالمي.