فينتك جيت: بقلم د. محمد راشد
في ظل ما يشهده العالم من تغيرات اقتصادية غير مسبوقة، وتداعيات ممتدة لتباطؤ سلاسل التوريد، وارتفاع معدلات التضخم، وتراجع تدفقات الاستثمار، تقف الدول أمام اختبار حقيقي في إدارة مواردها وتحريك أدواتها الإنتاجية بذكاء.
وفي الحالة المصرية، يبرز القطاع العقاري ليس فقط كملاذ تقليدي لحماية الثروة من تقلبات الأسواق، وإنما كخيار استراتيجي لقيادة النمو، وإعادة التوازن للاقتصاد، وتحقيق قفزات في الناتج المحلي بأدوات محلية، وشراكات ذكية، وسياسات أكثر مرونة.
لقد ظل العقار لسنوات طويلة يُنظر إليه باعتباره وسيلة لتخزين القيمة، لا سيما في ظل غياب الثقة في أدوات الادخار التقليدية، وانخفاض القدرة الشرائية، وتراجع قيمة العملة المحلية.
إلا أن الدولة المصرية قررت في السنوات الأخيرة قلب هذه المعادلة، عبر تبني رؤية أكثر شمولًا تعتبر العقار ليس فقط مساحة تُبنى، بل منظومة إنتاجية متكاملة، يمكن من خلالها خلق وظائف، وتحريك عشرات القطاعات المغذية، وتوسيع رقعة التنمية، وتحقيق العدالة المكانية والاقتصادية في آنٍ واحد.
وهكذا، تحوّل العقار تدريجيًا من مجرد حائط صامت إلى كيان حيّ يتفاعل مع خطط التنمية، ويتداخل مع التعليم والصحة والصناعة والخدمات، ليصبح أحد أعمدة الدولة الإنتاجية الجديدة.
وتُترجم هذه الرؤية في تنمية مدن جديدة ذات طابع ذكي مثل العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة، حيث لا يُبنى العمران من أجل الواجهة فقط، وإنما يُبنى ليحتوي على مراكز تحكم رقمية، وبنية تحتية معرفية، وشبكات ذكية لإدارة الطاقة والمياه والحركة، مما يخلق بيئة عمرانية صديقة للبيئة، وجاذبة للاستثمار، ومهيأة للمستقبل.
ومن هنا تنطلق فكرة الربط بين العمران والإنتاج، من خلال مجتمعات مكتفية ذاتيًا، تتكامل فيها الصناعات الصغيرة، ومراكز الخدمات، والجامعات، والوحدات الصحية، بما يمنح المواطن فرصة للعيش والعمل والتعلم دون اضطرار للنزوح أو التكدس في المدن الكبرى.
وبالتوازي مع هذا التحول العمراني، كانت الدولة تخوض معركة أخرى لا تقل أهمية وهي رقمنة القطاع العقاري، عبر مشروع الرقم القومي للعقار الذي يستهدف توثيق وربط كل وحدة عقارية ببيانات موحدة، مما يضع نهاية لسنوات من العشوائية العقارية، ويمنح السوق شفافية تحتاجها بشدة، ويجذب المستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء. ويعزز هذا التحرك إدخال الذكاء الاصطناعي لتحليل اتجاهات السوق، وتقدير الفجوات بين العرض والطلب، وابتكار حلول أكثر مرونة لتراخيص البناء وإدارة الأراضي، بما يؤدي في المحصلة إلى تقليص زمن الإجراءات، وزيادة كفاءة التخصيص، وتوسيع قاعدة المطورين المشاركين في السوق.
ورؤية الدولة لم تقف عند رقمنة الإدارة أو التحول الذكي في الإنشاء، بل امتدت إلى الاستدامة بوصفها التحدي الأكبر للعمران في القرن الحادي والعشرين.
فالمباني في الفهم الجديد لم تعد مجرد كتل خرسانية، بل يجب أن تكون كيانات خضراء تتفاعل مع بيئتها، وتقلل من استهلاك الطاقة، وتعتمد على الطاقة الشمسية، وتعيد تدوير المياه والمخلفات، وتتبنّى مفاهيم التصميم المناخي.
ومن هذا المنطلق، بدأت تظهر في السوق المصري مبادرات لتطبيق معايير LEED وEDGE العالمية، وتوجه حكومي واضح نحو تقديم حوافز للمطورين الذين يلتزمون بممارسات البناء الأخضر، في إطار سعي حثيث لتحويل العمران إلى حليف للبيئة، لا عبء عليها.
وإذا كان الداخل المصري يشهد تحولات عميقة في فلسفة بناء وإدارة وتخطيط القطاع العقاري، فإن الخارج لا يقل أهمية. ففكرة “تصدير العقار” لم تعد مجرد أمنية، بل ضرورة اقتصادية تستند إلى مزايا تنافسية حقيقية تمتلكها مصر، من موقع جغرافي فريد، وأسعار أقل نسبيًا، ومناخ معتدل، وثقافة عمرانية متفردة.
ورغم أن العائد الحالي من تصدير العقار لا يزال محدودًا، إذ لا يتجاوز 400 مليون دولار سنويًا، مقارنة بدول مثل الإمارات وتركيا، فإن هناك خطوات حقيقية اتخذتها الدولة لتوسيع هذا الملف، من خلال تيسير تملّك الأجانب، والمشاركة الفاعلة في المعارض الدولية، وتأسيس منصات رقمية لتسويق العقار المصري عالميًا، إلى جانب التفكير في إنشاء مناطق عقارية خاصة موجهة للجاليات المصرية والعربية بالخارج.
ويبقى ملف التمويل العقاري هو الرئة التي يجب أن تُفتح على مصراعيها إذا أردنا لقطاع العقار أن يكون شاملًا وعادلًا ومستدامًا. فالطلب الحقيقي في السوق لا يكمن فقط في مشروعات الرفاهية، بل في احتياجات الشباب ومتوسطي الدخل، وهو ما يتطلب آليات تمويلية طويلة الأجل، وأدوات مبتكرة تتجاوز النظام التقليدي للقروض البنكية.
كما أن دعم البورصة العقارية، كآلية لتحويل العقار إلى أصل قابل للتداول، سيخلق عمقًا ماليًا جديدًا للسوق، ويرفع مستوى الشفافية والسيولة، ويمنح المطورين أدوات جديدة للتمويل والنمو.
وفي ظل هذه المسارات المتوازية بين الرقمنة، والاستدامة، والتصدير، والتمويل، تتشكل ملامح جديدة لدور العقار في الاقتصاد المصري. لم يعد الحديث عن العقار مقتصرًا على فكرة “الوحدة والسعر”، بل أصبح العقار تعبيرًا عن توجه الدولة، وانعكاسًا لفلسفة إنتاج القيمة، وأداة لإعادة توزيع التنمية، وتفكيك المركزية، وتحقيق التوازن بين الريف والحضر، وبين الأطراف والعاصمة.
إنها لحظة تاريخية يتعين فيها صياغة شراكات بين القطاعين العام والخاص، وبناء كيانات مؤسسية قوية، ودعم قدرات المطورين المحليين على التوسع الإقليمي، وتعظيم دور العقار كمنتج محلي يمكن تصديره، ومصدر دخل قومي يجب تعزيزه.
إن ما يملكه القطاع العقاري المصري اليوم من إمكانيات، وما توفره له الدولة من بنية تحتية وتشريعات وفرص، يجعل منه رهانًا ذكيًا لعبور التحديات الاقتصادية الراهنة. وليس المطلوب سوى وضوح الرؤية، وجرأة القرار، واستمرار التنسيق المؤسسي، حتى يتحول هذا الكنز الوطني إلى قاطرة نمو شاملة، تدفع بالاقتصاد المصري إلى الأمام، وتضعه على مسار أكثر مرونة وعدالة واستدامة.
اقرا ايضا:
د. محمد راشد: المجتمعات العمرانية الذكية… من الرؤية إلى التطبيق في مصر الجديدة
د. محمد راشد يكتب: سندات الكربون العقارية.. رافعة تمويلية لتنشيط صناعة العقار في مصر