«فاينانشيال تايمز»: المؤثرون الافتراضيون.. قوة صاعدة تعيد رسم ملامح اقتصاد المحتوى الرقمي

فينتك جيت: وكالات

في مقطع قصير لم تتجاوز مدته ثماني ثوانٍ على منصة «تيك توك»، ظهرت الطالبة الأمريكية «تينسلي» وهي تبكي بعينين محمرّتين، لتخبر متابعيها بأن سكن الطالبات الذي كانت تأمل الانضمام إليه رفض طلبها. وسرعان ما انهالت عليها التعليقات الداعمة، ليحصد الفيديو ما يقارب 150 ألف مشاهدة. وكتب أحد المستخدمين: «يا عزيزتي، ستجدين حتماً مكاناً يرحّب بك، فلا تفقدي الأمل!»، وأضاف آخر: «لا تستسلمي».

إنشاء الحساب الوهمي كتجربة

لكن المفاجأة كانت لاحقاً، حين تبيّن أن «تينسلي»، التي استقطبت آلاف المتابعين خلال أيام قليلة، لم تكن سوى مؤثرة رقمية مولَّدة بالكامل بالذكاء الاصطناعي، بحسب ما كشفت مبتكرتها «أوليفيا مور»، الشريكة في شركة رأس المال الاستثماري «إيه16زد» في وادي السيليكون.

وقالت مور إنها لم تستغرق أكثر من عشر دقائق يومياً على مدار أسبوع في شهر أغسطس لإنشاء الحساب الوهمي كتجربة، مستخدمة فقط ثلاث أدوات متاحة من أدوات الذكاء الاصطناعي، موضحة عبر منصة «إكس»: «قد يكون هذا هو مستقبل العلامات التجارية والتسويق، بل والترفيه أيضاً».

إطلاق آلاف «المؤثرين الافتراضيين»

وتُسهم أدوات الإنتاج المعززة بالذكاء الاصطناعي بجودة سينمائية في إطلاق آلاف «المؤثرين الافتراضيين» ضمن اقتصاد إبداعي بلغت قيمته نحو 250 مليار دولار، سواء عبر ابتكار شخصيات جديدة أو استنساخ مؤثرين حقيقيين. وقد بلغ مستوى الإقناع حدّاً جعل شخصية «ميا زيلو» تحصد أكثر من 150 ألف متابع بعد ظهورها في مقاطع توحي بحضورها بطولة ويمبلدون هذا الصيف، قبل أن يتضح لاحقاً أنها شخصية مولّدة بالكامل داخل بيئة افتراضية.

ويؤكد مؤيدو هذا التوجه أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يدعم المؤثرين الحقيقيين بأتمتة مهام مثل ترجمة المحتوى، الرد على المتابعين، أو استخدام نسخ متحركة منهم لإبرام صفقات تسويقية حتى أثناء نومهم. أما العلامات التجارية، فتتيح لها هذه التقنية تنفيذ حملات تسويقية عبر مؤثرين افتراضيين بسرعة وتكلفة منخفضة، مع تحكّم كامل في مظهر الشخصية وسلوكها. ويصفها ألكسندرو فويكا، رئيس الشؤون المؤسسية والسياسات في شركة «سينثيسيا»، بأنها «أداة قوية» تمكّن حتى العلامات الصغيرة من إنتاج محتوى احترافي بجودة استوديوهات كبرى وبتكاليف محدودة.

هواجس عميقة لدى المؤثرين

بيد أن هذا التحول التكنولوجي يثير هواجس عميقة لدى المؤثرين من البشر – خاصة أولئك الرافضين لدمج الذكاء الاصطناعي في عمليات إنتاج محتواهم – وكذلك لدى فرق عملهم، من خطر الاستبعاد أو الاستغناء عنهم. وأظهر استطلاع أجرته منصة «إنفلونسر ماركتنغ هَب» عام 2024، وشمل 500 من محترفي التسويق، أن نحو 60 % استخدموا مؤثرين افتراضيين في حملاتهم، بينما يخطط 15.5 % لذلك.

وأكدت الأغلبية أن قدرتهم على تخصيص سلوك المؤثر الافتراضي أو التحكّم فيه كانت عاملاً أساسياً في اعتمادهم هذه التقنية. وحذّرت المؤثرة وعارضة الأزياء غابرييلا هاليكاس من أن هذه التقنية تمثل «خطراً على الفنانين»، مضيفة أنها تهدد جميع المشاركين في جلسات التصوير، من مصففي الشعر وخبراء المكياج، إلى منسقي الأزياء، والعارضين، والمصورين، ومصوري الفيديو، وعمّال الموقع، والمنتجين.

ويشكّل التوسع في المحتوى والحسابات المعتمدة كلياً على الذكاء الاصطناعي ركيزة أساسية في استراتيجيات منصات التواصل الاجتماعي في وادي السيليكون، وذلك وفقاً لتصريحات عدد من التنفيذيين. وفي أكتوبر الماضي، توقّع مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذي لشركة «ميتا»، أن يخلق الذكاء الاصطناعي «فئة ثورية جديدة تماماً من المحتوى»، مؤكداً: «سنشهد أحد أبرز التوجهات المستقبلية وأهم التطبيقات العملية في عالمنا الرقمي».

وأطلقت شركة «ميتا» استوديو الذكاء الاصطناعي الخاص بها، والذي يتيح للمؤثرين إنشاء «نسخة رقمية ذكية» من أنفسهم باستخدام بيانات منشوراتهم السابقة لمحاكاة نبراتهم وتعبيراتهم. ويتوقع كثيرون أن تتيح هذه التقنية قريباً إنتاج محتوى شخصي مخصص لكل متابع على نطاق واسع.

مهارات تقنية متقدمة

غير أن أدريان لاهينز، الرئيسة السابقة لاستراتيجية المحتوى العالمي والعمليات في تيك توك، ترى أن الرابح الأكبر في هذه الثورة ليس المؤثر التقليدي، بل جيل جديد يُعرف بـ«فناني الذكاء الاصطناعي»، موضحةً أن هؤلاء لا يكتفون بصناعة المحتوى، بل يجمعون بين مهارات تقنية متقدمة وفهم عميق لنماذج الفيديو المعتمدة على الذكاء الاصطناعي التي تطورها شركات مثل «غوغل» و«أوبن إيه آي»، ما يمكّنهم من ابتكار شخصيات افتراضية تحمل قصصاً وسيناريوهات آسرة.

وأشار أليكس مشرابوف، مؤسس شركة «هيغزفيلد إيه آي» والرئيس السابق لقسم الذكاء الاصطناعي في «سناب»، إلى أن بعض المبدعين يستخدمون منصته لإدارة ما يشبه «وكالات مواهب رقمية»، تضم قائمة من المؤثرين الافتراضيين، يجذبون الرعاة ويحققون أرباحاً دون الحاجة إلى جلسات تصوير أو سفر فعلي.

ابتكار شخصيات افتراضية

وأكد أن «إمبراطورية الإعلام المقبلة لن تُبنى في هوليوود أو وادي السيليكون، بل على يد شاب عشريني يمتلك مجموعة شخصيات ذكية مصممة بالذكاء الاصطناعي»، مضيفاً أن الأفراد المسلحين بالأدوات المناسبة قادرون على «منافسة الاستوديوهات الكبرى، والتفوق عليها في الخطط والاستراتيجيات، وتقديم إبداعات تتجاوز ما تنتجه الوكالات العملاقة، وصناعة توجهات تتفوق على صيحات هوليوود التقليدية».

وبالفعل، بدأت تتشكّل ملامح سوق ناشئة تُركّز على اقتصاد المؤثرين الرقميين، عبر استوديوهات متخصصة في ابتكار شخصيات افتراضية وإدارة سردها، إلى جانب مجموعات إعلانية تربط العلامات التجارية بهذه الفئة الجديدة من المؤثرين. وتُعد «ليل ميكيلا» من أوائل المؤثرات الافتراضيات، وقد ابتكرتها شركة «برود» في لوس أنجلوس، وتُقدَّر قيمة عقودها مع علامات مثل «بربري» و«برادا» و«جيفنشي» بمئات الآلاف من الدولارات.

وكشفت شركة «فيم فلو إيه آي»، المتخصصة في منح العلامات التجارية حق استخدام نسخ افتراضية من المشاهير في حملاتها التسويقية، عن تعاقدها مع ما يزيد على 100 شخصية مشهورة.

وتعتمد بعض الشركات اعتماداً كلياً على المؤثرين الافتراضيين؛ إذ أوضح ديلان فورنييه، الشريك المؤسس في شركة «أركادز»، أن تكلفة إنتاج إعلان قصير باستخدام شخصية رقمية لا تتعدى 10 يوروهات، مقابل 300 يورو عند الاستعانة بمؤثر حقيقي.

وتتسابق العلامات التجارية الكبرى لاقتحام هذا المجال؛ إذ أطلقت «إتش آند إم» مؤخراً أول مجموعة من النسخ الرقمية لعارضيها، المولَّدة بالذكاء الاصطناعي، واستخدمتها في حملاتها الإعلانية، فيما تعاونت «هيوغو بوس» مع المؤثرة الافتراضية «إيما» ذات الشعر الوردي، التي يتابعها نحو نصف مليون شخص.

مدى تقبّل المستهلكين

غير أن شركات إعلانية كبرى أخرى لا تزال تتوخى الحذر، خصوصاً فيما يتعلق بالإشكالية الأخلاقية حول ضرورة الإفصاح عن استخدام الذكاء الاصطناعي في المحتوى، وآليات هذا الإفصاح. وقال أحد كبار التنفيذيين في وكالة إعلانات كبرى إن «الحكم لم يُحسم بعد بشأن مدى تقبّل المستهلكين لهذا النوع من المحتوى»، مشيراً إلى أن بعض الشخصيات استفادت من كونها مولَّدة بالذكاء الاصطناعي، لكن حين يغيب هذا الجوهر ويقتصر الأمر على التسويق من جانب المؤثرين، يظهر تردد واضح، خاصة إذا بدا الأمر خداعاً للجمهور.

ويرى البعض أن الذكاء الاصطناعي، رغم قدراته، لن يزيح المؤثرين البشريين كلياً، لعدم قدرة الجمهور على التماهي معه أو الوثوق به إنسانياً، وهي فرضية تؤكدها الأرقام. فقد أظهر تقرير صادر عن «تويسي»، استناداً إلى تحليل بيانات أكثر من 11,500 مؤثر بشري وافتراضي من حيث الإيرادات ومصادر الدخل والتفاعل، أن المنشورات الدعائية للمؤثرين الحقيقيين تسجّل تفاعلاً أعلى بمعدل 2.7 مرة مقارنة بتلك التي تروّج لها شخصيات الذكاء الاصطناعي. كما أظهر التقرير أن المؤثرين من البشر يجنون في المتوسط نحو 78,777 دولاراً عن كل منشور دعائي، مقارنة بـ1,694 دولاراً فقط تُدفع للشخصيات الافتراضية.

وقال جاغو شيرمان، رئيس الاستراتيجية في وكالة «ذا غوت» التابعة لمجموعة «دبليو بي بي»، إن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى التجربة الإنسانية، مستشهداً ببيانات صادرة عن «إيماركتر» تفيد بأن 65 % من البالغين يشعرون بعدم الارتياح تجاه الإعلانات المصنوعة بالذكاء الاصطناعي.

اقرأ ايضا:

«فاينانشيال تايمز»: مخاوف من تراجع حاد في عمليات البحث عبر «جوجل» بسبب الذكاء الاصطناعي

«فاينانشيال تايمز» : «الصين» تستقبل رقائق مهربة بمليار دولار من «إنفيديا» منذ إعلان رسوم «ترامب»

«سعيد الأطروش» يعلن ترشحه لعضوية شعبة الصحفيين الاقتصاديين تحت شعار الفريق الواحد… الهدف المشترك