دكتور «عمر عبد الفتاح» يكتب.. «الذهب في زمن التحوّل»: حين يهتز الدولار ويبحث العالم عن رمز جديد للقوة

مشهد غير مألوف

في الأيام الأخيرة، شهد العالم مشاهد غير مألوفة: طوابير طويلة أمام محال الذهب في مدن تمتد من برلين إلى إسطنبول، ومن نيودلهي إلى شنغهاي. الناس يشترون سبائك ومجوهرات ليس بدافع الزينة، بل بدافع النجاة. المشهد وحده يكشف أن الذهب لم يعد مجرد معدن ثمين — بل صار مرآة للخوف والبحث عن الأمان في عالم تتغير فيه قواعد اللعبة بسرعة.


الذهب الذي لم يعد الذهب

لأجيال طويلة، كان الذهب يُقاس بمعيار التضخم أو الفائدة أو الدولار. لكن الآن، الذهب لم يعد الذهب بمعناه التقليدي. الطلب عليه لم يعد ناتجًا عن ارتفاع الأسعار أو ضعف العملات فحسب، بل عن تحوّل عميق في الثقة: ثقة الشعوب في البنوك، وثقة الدول في النظام النقدي العالمي نفسه.

البنوك المركزية تكدّس المعدن الأصفر بوتيرة غير مسبوقة، والأفراد في الأسواق الناشئة يفرّون من العملات المحلية نحوه كأنه “المال الأخير” الحقيقي. صار الذهب لغة مشتركة بين من فقدوا الثقة في وعود الورق.


جدل الساعة

ينقسم المحللون اليوم إلى معسكرين:

  • الأول يرى أن ما يحدث هو بداية “عصر ذهبي جديد”، حيث يعاد تسعير الذهب في عالم تتآكل فيه هيمنة الدولار.

  • الثاني يرى المشهد الحالي “ذروة خوف” تشبه ما حدث عام 2011، عندما سبقت الطوابير قمة الأسعار ثم بدأ التصحيح القاسي.

لكن ربما كلا الفريقين يغفلان جوهر المسألة: أن النقاش لم يعد حول السعر، بل حول النظام نفسه.


الدولار وانتصار أمريكا

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان الدولار هو المظهر المادي لانتصار الولايات المتحدة، والأداة التي تم بها إعادة توزيع القوة بعد الحرب. من خلاله رُسمت خرائط النفوذ المالي، وتحوّلت واشنطن إلى المركز الذي يدور حوله النظام العالمي بأسره.

لكن مع بدايات القرن الحادي والعشرين، تغير المشهد: ظهرت قوى اقتصادية وتكنولوجية جديدة — الصين، الهند، روسيا، وحتى تكتلات الجنوب العالمي — تطالب بدور أكبر في تحديد شكل العالم القادم. العالم لا يبحث فقط عن نظام مالي جديد، بل عن مظهر جديد لإعادة توزيع القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية.


رمز جديد للقوة

في ظل هذا التحوّل، يعود الذهب إلى الواجهة ليس كسلعة، بل كرمز. رمز لقيمة لا تتحكم فيها واشنطن، ولا يمكن تجميدها أو طباعتها. رمز للعالم “المتعدد الأقطاب” الذي يتشكّل ببطء، والذي يريد التحرّر من هيمنة العملة الواحدة.

الذهب هنا لا يرتفع فقط لأن المستثمرين يشترونه، بل لأن النظام نفسه يعيد تعريف أدوات القوة. كأن المعدن الأصفر صار اللغة البديلة حين تتعثر لغة الدولار.


الخوف الأكبر

لكن التاريخ يعلمنا أن كل محاولة لإعادة توزيع القوة — الاقتصادية أو السياسية — نادرًا ما تمر بهدوء. فما لم يُحسم في أسواق المال، قد يُحسم على جبهات أخرى. ومع تصاعد التوتر في الشرق الأوسط وبحر الصين وأوروبا الشرقية، يتزايد القلق من أن يكون اختبار النظام الجديد عبر حرب كبرى، تعلن نهاية حقبة الدولار وبداية عالم آخر.


إعادة تعريف

الذهب اليوم ليس سلعة ولا استثمارًا فحسب — بل مرآة لعصر يبحث عن يقين جديد. ربما نحن لا نشهد مجرد إعادة تسعير للمعدن، بل إعادة تعريف لمفهوم القوة نفسه. السؤال لم يعد: إلى أي مستوى سيصل الذهب؟ بل: إلى أين يمكن أن يصل العالم؟


الذهب بين بافت وفوكوياما… نهاية التاريخ أم بدايته من جديد؟

من بين الأصوات التي لا تزال تنتقد الذهب، يبرز صوت المستثمر الأسطوري «وورن بافت»، الذي يرى أن التفكير في الذهب هو بقايا من عالم قديم تجاوزه الزمن. في نظره، الذهب لا يُنتج قيمة ولا يخلق ثروة، بل يظل راكدًا في خزائن لا تفعل شيئًا، بينما الشركات والمزارع والمصانع هي التي تدفع عجلة التاريخ إلى الأمام. كلامه يبدو عقلانيًا ومنطقيًا، لكنه في العمق يكشف إيمانًا أعمق بالنظام القائم ذاته — النظام الذي جعل من الدولار مركز الكون المالي.

بافت لا يدافع فقط عن الاقتصاد الإنتاجي، بل عن فلسفة الدولار كأداة ومعيار للقيمة، كأن العالم الذي يدور حول العملة الأمريكية هو النهاية الطبيعية لتطور البشرية المالي، وأن البدائل — كالذهب أو العملات الرقمية أو الأنظمة المتعددة — مجرد انحراف مؤقت عن “الطريق الصحيح”.

وهنا تكمن المفارقة التي تجعل رؤيته قريبة من أطروحة «فرانسيس فوكوياما» في “نهاية التاريخ”، حين ظن أن الديمقراطية الليبرالية هي المحطة الأخيرة للتاريخ السياسي.

لكن كما أثبتت العقود الأخيرة أن التاريخ لم ينتهِ سياسيًا، فربما لم ينتهِ ماليًا أيضًا. العالم يعيد التفكير في أسس القيمة نفسها، وفي من يملك الحق في إصدارها، وفيما إذا كان الدولار سيبقى مرآة القوة، أم يصبح ظلًّا لعالم يتغيّر.


خاتمة: حين تعود القيمة إلى معناها الأول

مصدر قوة الذهب لم يكن يومًا في بريقه أو ندرته، بل في الاتفاق الإنساني العميق الذي منحه القيمة عبر العصور. قد يصعد سعره أو يهبط، لكنه لا يُنكر، ولا يذوب كما تذوب العملات حين تفقد ثقة شعوبها. لقد رأينا دولًا تتآكل عملاتها كما يذوب الزبد على النار — في لبنان، في العراق، في الأرجنتين — فلا تذوب الدول نفسها، بل تذوب الفكرة الخاطئة التي ربطت القيمة بورقٍ لا يستند إلى شيء.

ولو أن مواطنًا من تلك الدول احتفظ بمدخراته بالذهب، وحولها إلى عملته فقط حين يحتاج، لكان اليوم في مأمن من الفوضى، ولكان لوَرن بافت نفسه في حيرة أمام تلك الحقيقة البسيطة التي يتجاهلها منطقه المتفلسف. الذهب ليس أداة إنتاج، لكنه أداة نجاة حين تنهار الأنظمة التي تُنتج بلا ثقة.

العالم، في جوهره، لا يحتاج إلى عودة الذهب بقدر ما يحتاج إلى عملةٍ واحدةٍ عادلة، لا ترتكن إلى دولة، بل إلى أصلٍ يحظى بالقبول العام، عملة رقمية سيادية الطابع، بلا انحياز جغرافي ولا احتكار سياسي، تحمل خصائص السرعة والشفافية والعدالة التي عجز الدولار عن تحقيقها.

ربما هذا هو القادم — شاء من شاء وأبى من أبى — لحظةُ ميلادٍ جديدةٍ للقيمة، لا تُقاس بورقةٍ خضراء، بل بثقةٍ إنسانيةٍ شاملة.

بقلم

الدكتور «عمر عبد الفتاح»

الخبير الاقتصادي


في هذا السياق، ومن ناحية أخرى، هناك العديد من الأخبار المرتبطة بالقطاع والتي يمكنك متابعتها. على سبيل المثال، نستعرض أهمها في القائمة التالية:

«دكتور عمر عبد الفتاح» يكتب.. تحليل اقتصادي لصعود الذهب

عضو اللجنة الاستشارية لمجلس الوزراء للتنمية العمرانية: القطاع العقاري المصري جاهز لإعادة إعمار غزة

«وزير الإسكان» المصري يصدر حركة تغييرات بهيئة المجتمعات العمرانية وأجهزة المدن الجديدة