قناة السويس ..حين تدفع مصر فاتورة حرب لم تشعلها

بقلم: كرم سامي

في لحظة دقيقة من عمر المنطقة، تعود قناة السويس إلى واجهة المشهد الاقتصادي والسياسي، فكل أزمة تضرب منطقتنا، تتكشف حقيقة واحدة: أن مصر، مهما ابتعدت عن بؤر الاشتعال، لا تنجو من كلفة النار.
وها هي قناة السويس، شريان العالم ومصدر فخر المصريين، تدفع اليوم ثمن حربٍ لم تشعلها، لكنها تعاني تبعاتها بكل تفاصيلها الاقتصادية والسياسية.
منذ اندلاع الحرب في غزة وتفجر التوتر في البحر الأحمر، تغيّر وجه الملاحة العالمية.
هجمات الحوثيين على السفن جعلت خطوط التجارة تبحث عن طرق بديلة، فأُصيب قلب الملاحة في مصر في مقتل.
اليوم، تواجه القناة أحد أكثر اختباراتها قسوة منذ تأميمها في خمسينيات القرن الماضي، إذ تتقاطع في لحظة واحدة حرب غزة، وتوترات البحر الأحمر، والتحولات الجيوسياسية الكبرى في ممرات التجارة العالمية.
قناة السويس ليست رقمًا في الموازنة العامة، بل رمزًا للسيادة الاقتصادية منها يأتي شريان العملة الصعبة، ومنها يتنفس الاقتصاد المصري لمواجهة فاتورة الواردات والديون حين تتراجع إيراداتها، يختل التوازن المالي ويزداد الضغط على الجنيه وترتفع كلفة المعيشة في كل بيت مصري. ولهذا، فإن أي تهديد للملاحة في البحر الأحمر ليس شأنًا إقليميًا فحسب، بل قضية أمن قومي مصري بامتياز.
الرئيس عبد الفتاح السيسي تحدث عن هذا الواقع، مؤكدًا أن الحرب في غزة وتداعياتها الأمنية في البحر الأحمر انعكست مباشرة على الاقتصاد المصري، وعلى قناة السويس بوجه خاص.
كان حديثه امتدادًا لرؤية أعمق: أن مصر ليست متفرجة على ما يجري، بل تدفع ثمنًا باهظًا لاستقرار المنطقة التي تحيط بها النيران.
وهو ما أكده وزير الخارجية الدكتور بدر عبد العاطي من نيودلهي بقوله:
“ندفع ثمنًا باهظًا… كنا نستقبل 75 سفينة يوميًا، أما الآن فلا يتجاوز العدد 25 إلى 50”.
عبارة الوزير لم تكن توصيفًا اقتصاديًا فحسب، بل تلخيصًا لحقيقة سياسية:
أن مصر تدفع ضريبة موقعها، لا أخطائها.
تتحمل كلفة اضطرابٍ لم تصنعه، وتواجه تحديًا اقتصاديًا باردًا مصدره سخونة الجبهات في غزة والبحر الأحمر.
لكن مصر، كعادتها، لا تنكسر أمام الأزمات، بل تُعيد تعريفها.
فقناة السويس لم تكن يومًا مجرد ممرّ مائي، بل ممرّ إرادة.
ومنذ لحظة تأميمها عام 1956، ظلّت رمزًا لمعادلة واحدة: كل أزمة هي عبور جديد.
الأزمة الحالية كشفت أن الاعتماد على رسوم العبور وحدها لم يعد كافيًا، وأن المستقبل يكمن في التحول من قناة عبور إلى منظومة اقتصادية متكاملة.
من هنا، تكتسب المنطقة الاقتصادية لقناة السويس (SCZONE) أهمية مضاعفة.
فهذه المنطقة الممتدة على نحو 460 كيلومترًا مربعًا تحولت إلى منصة صناعية ولوجستية عالمية، جذبت أكثر من 6 مليارات دولار استثمارات في مشروعات الوقود الأخضر والصناعات المتقدمة ومكونات السيارات.
إنها ليست مجرد مشروعات، بل حصانة اقتصادية ضد الصدمات الجيوسياسية، تضمن أن تظل القناة ركيزة إنتاج لا مجرد مصدر رسوم.
الفريق أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس، عبّر عن هذا المعنى بثقة حين قال:
“قناة السويس تظل بلا منافس.”
ورغم أن القناة فقدت نحو 66% من إيراداتها و50% من حركة السفن، فإنها ما تزال المشروع الذي يعرف كيف ينهض، وكيف يتكيف.
من “القناة الجديدة” إلى “القناة الخضراء”، تتجدد روح التطوير والمنافسة، لتبقى القناة رمزًا لمصر التي لا ترضى إلا بالريادة.
ولأن السياسة والاقتصاد في الشرق الأوسط وجهان لعملة واحدة، فإن الأمل الحقيقي اليوم معقود على استعادة الهدوء في البحر الأحمر بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بجهود مصرية خالصة.
حين تهدأ المدافع، ويعود الأمن إلى الممرات، ستعود قناة السويس إلى وضعها الطبيعي — لا كقناة عبور فقط، بل كرمزٍ لقدرة أمةٍ على تحويل المحنة إلى فرصة.
إن مصر لا تطلب من العالم شكرًا، بل إنصافًا.
فهي تدفع ثمن حربٍ لم تشعلها، وتواصل عبور إرادتها في زمنٍ لا يرحم المترددين.