رئيس الرقابة المالية يشدد على أن التعليم المستمر هو الركيزة الأساسية لضمان كفاءة الأسواق واستدامة الإصلاحات التنظيمية

فينتك جيت: ريهام علي

أكد الدكتور محمد فريد، رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية، أن التعليم المهني المستمر لم يعد خيارًا تطوّعيًا، بل أصبح ضرورة حتمية لضمان قدرة المؤسسات والأسواق على مواكبة التطورات المتسارعة في التكنولوجيا، والحوكمة، وتنظيم الخدمات المالية، موضحًا أن مستقبل المهن التنظيمية والرقابية أصبح مرتبطًا بمدى التزام العاملين فيها بتحديث مهاراتهم ومعارفهم بشكل دائم، كي يستطيعوا التعامل مع بيئة اقتصادية متغيرة وضاغطة، ومع تحوّلات سريعة يشهدها العالم في الذكاء الاصطناعي وإدارة المخاطر والتحليل المتقدم.

جامعة إسلسكا

وأوضح فريد خلال كلمته بقمة التعليم التنفيذي التي تنظّمها جامعة إسلسكا أن صناعة الخدمات المالية لم تعد كما كانت قبل عشر سنوات، وأن الفجوة أصبحت واضحة بين من يُطوّر مهاراته باستمرار وبين من يكتفي بالخبرات التقليدية، معتبرًا أن هذه الفجوة باتت تؤثر على أداء المؤسسات وعلى جودة القرارات التنظيمية، لما تفرضه المرحلة الحالية من متطلبات دقيقة على مستوى الفهم والتحليل والقدرة على اتخاذ قرارات تعتمد على بيانات ومعايير حديثة.

وشدد على أن التطور الهائل في أساليب العمل، سواء على مستوى التكنولوجيا أو على مستوى متطلبات العملاء، جعل من التعليم المستمر محورًا أساسيًا للحفاظ على كفاءة العاملين وضمان قدرتهم على تنفيذ السياسات الإصلاحية التي تتبناها الدولة والهيئات التنظيمية.

القرارات التنظيمية

وأشار رئيس الهيئة إلى أن القرارات التنظيمية التي تصدرها الرقابة المالية خلال السنوات الأخيرة ترتبط بشكل مباشر بقدرة العاملين في المؤسسات المالية على استيعاب هذه القرارات وتطبيقها بطريقة فعّالة، ولذلك فإن تطوير القدرات المهنية للعاملين لم يعد أمرًا ثانويًا، بل هو جزء أصيل من نجاح الإصلاحات.

وأضاف أن العديد من الجهات الرقابية حول العالم تنتهج النهج نفسه، إذ تربط بين صلاحية الممارس المهني وبين إكماله عددًا محددًا من ساعات التدريب المعتمدة سنويًا، وهو التوجه الذي تبنّته الهيئة مؤخرًا في قطاع التأمين، حيث صدر للمرة الأولى قرار يلزم العاملين بالالتزام بعدد سنوي من ساعات التعليم المهني، وهو ما سيتم التوسع فيه ليشمل قطاعات أخرى، بما فيها المحاسبة والمراجعة وخدمات الأسواق المالية.

التطور التشريعي

ولفت فريد إلى أن التطور التشريعي وحده لا يكفي، وأن التشريعات مهما بلغت جودتها لا تحقّق هدفها إذا لم تكن القدرات البشرية القابلة للتنفيذ موجودة بالفعل. فمنظومة سوق المال، كما قال، لا تُدار فقط بالقوانين، بل تُدار بالخبرات المتراكمة للعاملين وبقدرتهم على مواكبة أدوات التحليل الحديثة، خاصة أن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي أصبحا جزءًا لا يتجزأ من صناعة التمويل غير المصرفي. وأكد أن هناك وظائف جديدة بدأت تظهر داخل المؤسسات المالية تعتمد بشكل مباشر على التحليل الرقمي المتقدم وعلى أدوات الذكاء الاصطناعي، وبالتالي فإن تطوير قدرات العاملين لم يعد مجرد تحسين للمهارة، بل إعادة بناء شاملة لطبيعة المهارات المطلوبة في المستقبل.

 

ونبّه رئيس الهيئة إلى أن المنافسة العالمية بين الأسواق المالية أصبحت تعتمد بصورة كبيرة على جودة رأس المال البشري، وأن السرعة التي يتحرك بها العالم اليوم تفرض على جميع المؤسسات — حكومية كانت أو خاصة — أن تراجع طريقة تدريب العاملين لديها. وأضاف أن الأجيال الجديدة، من جيل Z إلى جيل Alpha، لديها طبيعة مختلفة في التعلم وطريقة مختلفة في التفاعل مع العمل، وأن المؤسسات التي لا تفهم هذه الطبيعة الجديدة ستجد نفسها بعيدة عن الواقع وغير قادرة على جذب الكفاءات ولا الاحتفاظ بها، مما يعمّق مشكلة نقص المهارات داخل القطاع المالي.

الخطوات العملية لبناء منظومة

وأوضح فريد أن الهيئة اتخذت خلال السنوات الأخيرة مجموعة من الخطوات العملية لبناء منظومة تدريب مستدامة، ليس فقط من خلال القرارات التنظيمية، بل أيضًا عبر إنشاء قواعد بيانات تضم خبرات وكفاءات نسائية مؤهلة للعمل في مجالس إدارات الشركات والقطاعات المالية، مشيرًا إلى أن الهيئة كانت سبّاقة في فرض نسب تمثيل للمرأة داخل مجالس الإدارات، وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة مشاركة السيدات من 14% فقط في عام 2020 إلى أكثر من 27% في 2024، مؤكدًا أن هذا الارتفاع لم يكن مصادفة، بل نتيجة جهود واضحة لبناء قاعدة بيانات مهنية تعتمد على التدريب المستمر ورفع جاهزية الكوادر النسائية.

 

وأضاف أن الهيئة قامت خلال العامين الماضيين بتحديث معايير المحاسبة والمراجعة بعد توقف دام 17 عامًا، كما عملت على وضع معايير محدثة لشركات التأمين وللشركات الناشئة، وأن هذه المعايير الجديدة لن تؤتي ثمارها بدون كوادر قادرة على فهمها وتطبيقها، وهو ما يفسّر اهتمام الهيئة بتوسيع منظومة التدريب لتشمل جميع المستويات، من العاملين في الإدارات التنفيذية إلى أعضاء مجالس الإدارات، وصولاً إلى الموظفين الجدد الذين يلتحقون بالقطاع المالي للمرة الأولى.

الكوادر البشرية

وشدد فريد على أن الذكاء الاصطناعي تحديدًا يمثل تحديًا ومصدر قوة في آن واحد، إذ يرفع الإنتاجية ويوفر حلولاً تحليلية دقيقة، لكنه في الوقت نفسه يفرض تحديًا على العاملين الذين يفتقرون للمهارات الرقمية، مؤكداً أن تطوير مهارات الكوادر البشرية سيُعد العامل الحاسم في قدرة المؤسسات على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي بدل أن يتسبب في فقدان الوظائف أو تعطيل منظومة العمل. وأكد أن دور إدارات الموارد البشرية أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى، لأنها الجهة التي تتحمل مسؤولية متابعة التحولات العالمية والاستعداد لها من خلال برامج تدريبية واقعية تُترجم إلى مهارات قابلة للتطبيق وليست مجرد محتوى نظري.

 

واختتم الدكتور محمد فريد بالتأكيد على أن الهيئة ستواصل دعم مبادرات التعليم المستمر، وأنها ستعمل مع الجامعات ومراكز التدريب على توفير برامج متخصصة قادرة على سد الفجوة بين الواقع والمتطلبات الجديدة، مشددًا على أن مستقبل الأسواق المالية غير المصرفية سيتحدد بمدى استثمار المؤسسات في العنصر البشري، وأن الإصلاح الحقيقي يبدأ من قوة المعرفة، ومن قدرة الكوادر على تحويل القرارات التنظيمية إلى واقع ملموس يلمسه المواطن والمستثمر على حد سواء.

في هذا السياق، ومن ناحية أخرى، هناك العديد من الأخبار المرتبطة بالقطاع والتي يمكنك متابعتها: