«مي حجازي» الخبيرة المصرفية تكتب عن الهوية الرقمية وإعادة تشكيل العمل المصرفي الذكي

«لم تعد الهوية الرقمية (Digital Identity) مجرد إجراء تشغيلي للتحقق من هوية العميل، بل تحولت إلى الطبقة السيادية التي يُعاد بناء المنظومة المصرفية الحديثة على أساسها. فهي تمثل نقطة الالتقاء بين الثقة، والذكاء الاصطناعي، والشمول المالي، والاستدامة، لتصبح المحرك الخفي لاقتصاد رقمي أكثر نضجًا ومرونة»
في عصر تتسارع فيه المخاطر الرقمية وتتداخل فيه القنوات، لم يعد السؤال هو كيف نتحقق من هوية العميل، بل أصبح: كيف نبني ثقة رقمية مستمرة تدعم القرار المصرفي في كل لحظة.

الهوية الرقمية كأساس لإعادة تعريف الائتمان الذكي (Retail & Corporate)


تشهد نماذج تقييم الجدارة الائتمانية تحولًا جذريًا من التحليل الساكن إلى التقييم السلوكي الديناميكي.

فالهوية الرقمية المدعومة بالذكاء الاصطناعي تمكّن البنوك من تطبيق مفهوم المصادقة المستمرة (Continuous Authentication)، حيث يتم تحديث صورة المخاطر بشكل لحظي، وليس عند نقطة الدخول فقط.
• في التجزئة المصرفية:
يسمح هذا النموذج برصد أنماط الاستخدام، وتغير السلوك المالي، وإشارات الخطر المبكرة، مما يقلل معدلات التعثر ويُسرّع اتخاذ القرار الائتماني دون الإضرار بتجربة العميل.
• في ائتمان الشركات:
تتجاوز قيمة الهوية الرقمية منع الاحتيال لتصبح أداة حوكمة فعلية، تضمن سلامة التدفقات النقدية، وتؤمّن سلاسل الموافقات المعقدة، وتدعم الرقابة على القرارات ذات الأثر المالي الكبير.
وهنا تتحول الهوية الرقمية من أداة تحقق إلى عنصر حاكم للقرار الائتماني.

الشمول المالي: من الامتثال التنظيمي إلى التمكين الاقتصادي الحقيقي


تمثل الهوية الرقمية الركيزة الأساسية لكسر الفجوة بين الاقتصاد الرسمي وغير الرسمي، خاصة في الأسواق الناشئة.

• eKYC كنقطة دخول ذكية:
لم تعد إجراءات “اعرف عميلك” مجرد متطلب رقابي، بل أصبحت بوابة رقمية منخفضة التكلفة لدمج شرائح واسعة من المجتمع في النظام المالي.
• البيانات البديلة كأداة عدالة ائتمانية:
باستخدام الذكاء الاصطناعي، يمكن تحليل مؤشرات غير تقليدية مثل أنماط الدفع، وسلوك الهاتف المحمول، وتاريخ التعاملات اليومية لبناء ملفات ائتمانية أكثر إنصافًا لمن لا يملكون تاريخًا مصرفيًا.
وبذلك يتحول الشمول المالي من مبادرة شكلية إلى رافعة تنموية تدعم المشروعات الصغيرة، وتوسع القاعدة الضريبية، وتعزز الاستقرار الاقتصادي.

الثقة الرقمية كضمانة لمصداقية التمويل المستدام (Green Finance)


في ظل تصاعد الاهتمام العالمي بالتمويل الأخضر، أصبحت الثقة الرقمية خط الدفاع الأول ضد مخاطر الغسل الأخضر (Greenwashing).

من خلال دمج الهوية الرقمية مع أنظمة التتبع والتحقق:
  •  يمكن إنشاء مسار رقمي كامل يربط التمويل باستخدامه الفعلي.
  •  تتحول القروض الخضراء من وعود تسويقية إلى التزامات قابلة للتدقيق والقياس.
  •  تصبح الاستدامة عنصرًا مُدارًا بالبيانات، لا بالشعارات.
وهنا تؤدي الهوية الرقمية دور الضامن الأخلاقي والتقني في آنٍ واحد.

الحوكمة الذكية والذكاء الاصطناعي


لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن ينجح في القطاع المصرفي دون حوكمة واعية تستبق المخاطر بدلًا من ملاحقتها.

الحوكمة الذكية تعني:
  •  شفافية الخوارزميات وقابلية تفسير قراراتها.
  •  منع التحيز الخوارزمي في التقييم الائتماني.
  •  حماية سيادة البيانات والالتزام الصارم بالخصوصية.
  •  مواءمة الابتكار مع الأطر التنظيمية للبنوك المركزية.
في هذا السياق، لا تمثل الحوكمة عائقًا أمام الابتكار، بل شرطًا أساسيًا لاستدامته.

من المصرفية الرقمية إلى الاقتصاد الرقمي


إن مستقبل العمل المصرفي لا يُبنى على التكنولوجيا وحدها، بل على منظومة ثقة رقمية متكاملة تجمع بين:

  •  ذكاء ائتماني ديناميكي
  •  شمول مالي عادل
  •  استدامة قابلة للتحقق
  •  وحوكمة أخلاقية صارمة
المؤسسات التي تنجح في تحقيق هذا التوازن لن تكون مجرد متلقٍ للتحول الرقمي، بل ستكون المحرّك الحقيقي للاقتصاد الرقمي في مرحلته القادمة.

بقلم

مي حجازي

الخبيرة المصرفية

 

في هذا السياق، ومن ناحية أخرى، هناك العديد من الأخبار المرتبطة بالقطاع والتي يمكنك متابعتها: