صراع العملات.. «الرقمية» فى مواجهة «الافتراضية»

«العملات الافتراضية» أو «العملات المشفرة»، وكذلك «النقود الرقمية» مصطلحات أصبحت تتردد كثيرا فى نشرات الأخبار والمواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعى، وتتفاوت الدعوات بين التحذير من التعامل فيها من قبل الجهات الرسمية والمتخصصين، والترويج لها والتشجيع على التعامل فيها باعتبارها وهمية، وبين الترويج لها والتشجيع على تداولها تحت اغراء ارتفاع ارباحها، وعلى الجانب الآخر تدق البنوك المركزية جرس الانذار، وذلك فى مشهد يمكن وصفه بانه «صراع العملات»، الصفحة الاقتصادية ترصد هذا الصراع بين العملات التقليدية والافتراضية فى محاولة لتوصيف الواقع الجديد للنظام النقدى العالمى والمحلى الذى يتعرض لتحديات غير مسبوقة.

تاريخ النقود وتطورها

تُعد المقايضة هى اقدم طرق الحصول على السلع والاحتياجات من خلال استبدال سلعة بأخرى، ثم بدأ استخدام سلع وسيطة مثل الذهب والفضة والأحجار، ومع تطور المعاملات والعلاقات ظهرت النقود المعدنية فى القرن الـ١٧ فى أوروبا، بينما كانت أول محاولة حقيقية لإصدار نقود ورقية فى عام ١٦٥٦ فى السويد، وكان إصدارها يرتبط بوجود مقابل لها من الذهب، ومع تطور التعاملات واتساع نطاقها فى القرن الـ١٩ بدأت الدول تتخلى عن « قاعدة الذهب» وفرضت السعر الإلزامى للعملة والتى أطلق عليها البعض نقودا استبدادية لأنه لا يمكن الامتناع عن التعامل بها، كما لا يجوز المطالبة بتحويلها الى ذهب.

وبعد الحرب العالمية الاولى ومن خلال اتفاق «برتون وود» الشهير الذى بمقتضاه تم انشاء صندوق النقد والبنك الدوليين، تحللت معظم دول العالم من قاعدة الغطاء الذهبى، واصبح إصدار العملة الورقية يعتمد على القوة الاقتصادية للدولة والاحتياطى الخاص بها بالاضافة الى نسبة من مخزون الذهب.

ومع التطور الطبيعى للمعاملات تم إصدار الشيكات والسندات، ومع العولمة وانتشار وسائل الاتصال التكنولوجى وظهور التجارة الإلكترونية كان لابد من ايجاد بديل للنقود الورقية، فجاءت نظم الدفع الإلكترونى من خلال البطاقات الذكية بأنواعها المختلفة التى تعد نوعا من العملات الإلكترونية، كما ظهرت منذ سنوات وسائط للدفع الإلكترونى مثل pay pal، التى تقوم بدور الوسيط بين البائع والمشترى عبر الانترنت، فتقوم بخصم قيمة المشتريات من حساب المشترى واضافته لحساب البائع، وتُعد هذه المرحلة مرحلة انتقالية مهدت بشكل قوى لبدء عصر العملات المشفرة والافتراضية وفى مقدمتها بيتكوين وداش واثريوم وغيرها.

لماذا ظهرت العملات الافتراضية؟

يوضح الدكتور فخرى الفقى أستاذ الاقتصاد ورئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب ومستشار صندوق النقد الدولى السابق لماذا ظهرت العملات أو على الاصح النقود الافتراضية، ظهرت نتيجة للفجوة بين احتياجات الناس للنقد والتى زادت بشكل كبير مع زيادة السكان وارتفاع مستوى الطموحات والرغبات، وبين حجم النقد المتوافر الذى يرتبط بشكل وثيق بالاحتياطيات المركزية للدول، التى تتكون فى العادة من مخزون من العملات الصعبة والذهب والسندات الحكومية.

ونظرا لوجود هذه الفجوة على المستوى المحلى للدول، وكذلك على المستوى العالمى بالنسبة للعملات الدولية الخمس وهى الدولار والاسترلينى واليورو والين واليوان الصينى، قام صندوق النقد الدولى فى عام ١٩٦٩ بإصدار «وحدات حقوق السحب الخاصة»، وهى نوع مبكر من العملات الافتراضية فهى وحدة حساب على الورق ويصل حجمها الى ٣٠٠ مليار وحدة تخضع للمراجعة كل خمس سنوات ويقتصر استخدامها على التعاملات الداخلية لأعضاء الصندوق.

ويقول الفقى انه بالرغم من ذلك استمرت الحاجة الى عملة جديدة ذات مواصفات اكثر مرونة وبعيدا عن السلطات المركزية، وجاءت الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعى ليمكن من إصدارها، فظهرت البيتكوين اولا فى عام ٢٠٠٩ على يد مبرمج مجهول تحت اسم مستعار وهو « ساتوشى ناكاموتو» يدعى حمله للجنسية اليابانية سرعان ما اختفى بعد وضع الأساس اللازم لهذه العملة، كما ظهرت اخواتها من العملات الافتراضية غير المعترف بها دوليا .

وتتفاوت هذه العملات فى أسعارها، وتعد البيتكوين أغلاها ، فبعد أن كانت البيتكوين الواحدة تساوى دولارا تخطت قيمتها ٥٠ ألف دولار بداية فبراير ٢٠٢١ مع إعلان ايلون ماسك أغنى رجل فى العالم الاستثمار فيها، لتعود لتتلقى موجة تذبذبات حادة نتيجة للمضاربات التى هبطت بقيمتها بنسبة ١٧٪ ليهبط ايلون ماسك الى المركز الثانى فى قائمة أغنياء العالم، وذلك وفقا لوكالة بلومبرج الأمريكية.

ويمكن على حد تعبير بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت ان نعتبر هذه العملات خاصة بالأثرياء امثال ايلون ماسك والمضاربين فى أسواق المال العالمية، الى جانب تجارة المخدرات والسلاح، ويحذر جيتس صغار المستثمرين والمغامرين من الدخول فى هذا المجال الذى يتصف بتقلبات سعرية عشوائية لاتمثل قلقا او خسارة مؤثرة لامثال ايلون ماسك من أصحاب الثروات الطائلة ولكنها تُعد ضربة قاصمة للآخرين.

إصدار العملات الافتراضية وعمليات التعدين المعقدة

العملات الافتراضية هى عملات رقمية مشفرة ليس لها وجود الا فى الاجهزة الالكترونية ولها كود سرى، وهى اول عملات تصدر بعيدا عن سيطرة البنوك المركزية وتتمتع بالقدرة على اجراء التحويلات النقدية بسرعة فائقة، الى جانب قدرتها على إخفاء هوية المتعاملين مما جعلها تربة خصبة لعمليات غسل الاموال وتجارة العملة والسلاح والمخدرات والإرهاب، وبالرغم من الاقبال عليها من قبل شريحة معينة من الاثرياء الا ان اصدارها لا يزال مقيدا.

ويقول الدكتور فخرى الفقى ان اصدار وحدة مفردة من هذه العملات وفى مقدمتها البيتكوين تخضع لعمليات حسابية مركبة ومعقدة تتم على عدد كبير من أجهزة الحاسب الآلى وتستهلك كمية ضخمة من الكهرباء والطاقة توازى استهلاك عدة دول اوروبية، وبالتالى فهى عملية مكلفة وصعبة،. وتسمى هذه العملية بالتعدين والتنقيب للوصول الى عمليات حسابية جديدة وحل ألغاز رياضية صعبة تتولد عنها هذه العملة.

كما تعتمد آلية تداول هذه العملات على تكنولوجيا البلوك تشين او ما يسمى سلاسل الكتل، وهى دفتر حساب رقمى يسمح بتسجيل كل المعاملات على العملة الافتراضية فى المحفظة الخاصة بكل عميل على شكل كتل وسلاسل مشفرة، ويمكن التعامل على هذه العملات من خلال وسيط او مباشرة من خلال تسجيل بيانات العميل وبطاقته الالكترونية على منصات التداول.

ويشير الدكتور فخرى الفقى الى انه لابد من التأكيد أن البيتكوين لا تغطى سوى ٫3 ٪ من حجم المعاملات الدولية، وهو حجم محدود لا يدعو للقلق.

نقطة تحول فى موقف البنوك المركزية

منذ ظهور العملات الرقمية لم تعر البنوك المركزية اهتماما كبيرا لها بصفتها فقاعة سرعان ما ستنتهى، ولكن بمرور الوقت وزيادة الاقبال على التعامل بها وجذبها شرائح جديدة من المستثمرين، وكذلك مع بدء انشاء صناديق للاستثمار فيها بدأ الوضع يتغير واستشعرت البنوك المركزية حول العالم الخطر، كما زاد من أهميتها اعلان شركة فيسبوك العام الماضى عزمها إطلاق عملة افتراضية خاصة بها تحت اسم « ليبرا» مدعومة بأصول حقيقية مما أثار مخاوف عديدة، خاصة ان فيسبوك تمثل إحدى وسائل التواصل الاكثر انتشارا.

ففى حين كان معظم البنوك المركزية يهون من أمرها أصبح هناك شبه اجماع على ضرورة التحرك السريع لمواجهتها واحكام السيطرة على عملية إصدار العملة التى تُعد مهمة أصيلة للبنوك المركزية، وشرعت بالفعل هذه البنوك فى دراسة امكانات اصدار عملات رقمية رسمية وليست افتراضية تتمتع بضمانة الدولة وتخضع لسياستها النقدية، مما يشكل نقلة تاريخية لنظم الدفع الرقمية والمعاملات اللانقدية. وكشف استطلاع أخير لبنك التسويات الدولية التابع لمجموعة العشرين أن ٨٦٪ من البنوك المركزية فى العالم تبحث بالفعل مواجهة العملات الافتراضية من خلال إصدار عملات رقمية رسمية.

وتأتى الصين وفرنسا فى مقدمة الدول التى بدأت بالفعل فى تداول تجريبى للعملات الرقمية الرسمية، كما أعلن البنك المركزى الأوروبى انه فى طريقه لإصدار «يورو رقمى « بشكل تجريبى بحلول منتصف العام.

وعلى مستوى الدول العربية، أكد تقرير صندوق النقد العربى بعنوان «مخاطر العملات المشفرة» أن كلا من السلطات النقدية فى المملكة العربية السعودية والامارات المتحدة تعمل على تدشين مشروع «عابر» للعملة الرقمية كوحدة تسوية لعمليات البنوك التجارية فى كلا البلدين، كما يشرع العديد من الدول العربية الاخرى وفى مقدمتها مصر لدراسة إمكان اصدار العملات الرقمية بشكل رسمى ومضمون.

العملات الرقمية

وعلى صعيد المؤسسات الدولية، نجد أن موقف صندوق النقد الدولى غير واضح تجاه هذه العملات، واعتبرت كريستالينا جورجيفا مديرة صندوق النقد أن ثورة المدفوعات الرقمية تمثل «الذهب الجديد» لم تعط اى تعليق على حرب العملات الافتراضية المستعرة فى الوقت الحالى .

ويقول الدكتور فخرى الفقى الذى اطلع على كواليس الصندوق خلال فترة العمل به إن صندوق النقد وخبراءه يعملون فى صمت على تنفيذ خطة طويلة المدى تصل لأكثر من ٨٠ سنة لإحلال العملة الافتراضية للصندوق «حقوق السحب الخاصة» الى عملة ملموسة بديلة للعملات الخمس الدولية، وربما هذا هو السبب وراء التزامهم الحياد تجاه الصراع الحالى بين العملات.

المركزى المصرى والعملات الرقمية

لا يعترف البنك المركزى المصرى مثل معظم البنوك المركزية العالمية بالعملات الافتراضية غير الرسمية، محذرا من التعامل عليها نظرا لارتفاع مخاطرها و اعتمادها على المضاربات، كما أن هذه العملات المشفرة والرقمية لا تصدر عن اى سلطة مركزية يمكن الرجوع لها وليس لها أصول مادية ملموسة، بالتالى تفتقر الى الضمان والدعم الحكومى الرسمى الذى تتمتع به العملات التقليدية.

ويحظر قانون البنك المركزى المصرى والقطاع المصرفى الذى صدر مؤخرا فى مادته رقم «206» إنشاء أو تشغيل منصات لإصدار أو تداول العملات المشفرة أو النقود الرقمية أو الترويج لها دون الحصول على ترخيص من مجلس إدارة البنك المركزى المصرى ووفقا للإجراءات والقواعد التى يحددها.

وعرف القانون الجديد النقود الإلكترونية بأنها قيمة نقدية مقومة بالجنيه المصرى أو بإحدى العملات المصدرة من سلطات إصدار النقد الرسمية وتكون مخزنة إلكترونيا ومقبولة كوسيلة دفع، وذلك خلافا للعملات الافتراضية غير الرسمية مثل البيتكوين، لأنها غير مقومة بأى من العملات الصادرة عن سلطات النقد الرسمية ويتم تداولها عبر شبكة الإنترنت بدون أى ضمانة.

وبالرغم من التحذيرات والتشريعات التى تحظر التعاملات الافتراضية غير الرسمية إلا أن هناك بعض المغامرين المصريين يقومون بالتداول عليها عبر المنصات الرقمية العالمية ولكن بشكل محدود نظرا لارتفاع سعرها المقوم بالدولار الأمريكى والمخاوف بشأن مستقبلها، كذلك هناك منتديات ومجموعات عبر وسائل التواصل الاجتماعى تجمع الراغبين فى دخول هذا العالم لتبادل الخبرات والمعارف.

ومن جانبه، يدرس المركزى المصرى إصدار «الجنيه الرقمى» لمواكبة التطورات فى النظام النقدى العالمى وتحديات العملات الافتراضية الى جانب المحافظة على استقرار النظام النقدى ورسوخه وقوته.

رؤية الخبراء

يقول هانى أبو الفتوح الخبير المالى إن العملة الافتراضية مشفرة فى جميع جوانب التعامل بها، وليست عملة رسمية لها قوة إبراء قانونية، والتعامل بها محفوف بدرجة عالية من المخاطر، أهمها الفقدان أو السرقة من خلال الخرق الأمني، أو خطأ المستخدم، أو الفشل التكنولوجى فى محفظة العملة الرقمية، فعند حدوث أحد هذه الأحداث، فلا يمكن استعادة العملة مرة أخرى، كذلك يمكن أن تتعرض إلى الاحتيال أو الاستخدام غير المصرح به، عموما، يمكن لشخص ما حصل بطريقة احتيالية على بيانات الملكية الخاصة بصاحب محفظة النقود الافتراضية ـ مثل كلمة السر ـ أن ينفق منها، حينئذ لا يمكن عكس المعاملات فى معظم العملات، حتى لو كانت نتيجة الاحتيال أو الاستخدام غير المصرح به.

كما يشكل الخطأ فى معالجة المعاملات فى حالة تنفيذ مدفوعات بطريق الخطأ، مثل الدفع إلى مستفيد آخر، أو تحويل مبلغ غير صحيح أو عدم إتمام المعاملة فى الوقت المناسب بسبب خطأ منصة محفظة العملة أو غيرها من الأسباب الفنية، فإنه فى معظم أنظمة العملات الافتراضية لا تعكس المعاملة الخطأ، ولا يكون للمتعامل حق الرجوع على الأطراف الأخرى.

ويقول أبو الفتوح إن هناك أخطاء مرتبطة بمنصات التعامل، حيث لا تتوافر آلية تأمين لتعويض أصحاب المحافظ فى حالة إخفاق المنصة الإلكترونية التى تنفذ عمليات المحفظة، أو فى حال الأعطال التى لا يمكن معها الوصول إلى المحفظة، بالإضافة الى قابلية الاستخدام لغسل الأموال وتمويل الإرهاب والأنشطة الإجرامية المتصلة بالإنترنت حيث لا تعكس الهوية الحقيقية للمتعاملين.

وقال إن البنوك المركزية حول العالم لديها مخاوف من انتشار استخدام العملات الافتراضية، على رأسها عدم التحكم فى المعروض من العملات، وتقليص قدرة البنك المركزى على تحفيز الاقتصاد من خلال الاستفادة من تدابير التيسير الكمي. ولا يمكن تجاهل المخاوف من أن يؤدى استخدام العملة الإلكترونية الجديدة إلى استبعاد البنوك التقليدية من ساحة التعاملات، حيث يمكن أن تتم بعيدا عن النظام المصرفى الرسمي.

ومن جانبه، أوضح سمير رؤوف خبير أسواق المال أن العملات الافتراضية تشكل تغييرا فى النظام المالى العالمى، والى جانب التوسع فى الاقتصاد الرقمى هناك فرق بين العملات الالكترونية والعملات المشفرة فى تكوينها والبرمجيات المستخدمة فيها، مما قد يشكل نظاما عالميا متغيرا لأنظمة الدفع والتحويلات المالية خارج تدخل الدول والأنظمة المالية الضعيفة عالميا. ويشير إلى إن بورصة شيكاغو شهدت تطورا فى مجال إدراج هذه العملات الإلكترونية المشفرة على قوائمها فى محاولة لاستيعاب التحولات الرقمية التى تشكل تعاملات مالية خارج الأنماط البيروقراطية التقليدية التى لم تتطور بالشكل الكافى.

وتكمن قوة العملات الإلكترونية المشفرة فى العمليات الحسابية والطاقة المستخدمة لعمليات التعدين مما يصعب الحصول على العملة، موضحا أن الأسبوع الماضى شهد إصدار كندا صندوقا للاستثمار فى بيتكوين بمليار ونصف المليار، وفى يناير الماضى أطلقت بريطانيا صندوقا بـ 750 مليون دولار، كما بدأت بعض الشركات ومنها تيسلا ولامبورجينى قبول الدفع بعملة البيتكوين.

ويقول شهاب محمود المحلل بإحدى الشركات المالية إن الواقع الجديد للنظام المالى يعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا المالية، وأسهم فيروس كورونا بالإسراع من هذه التحولات فى ظل زيادة الحاجة للتعامل عن بعد، موضحا أنه لا يوجد مفر من إصدار البنوك المركزية للعملات الرقمية وبالرغم من دراسة المركز المصرى لهذا الامر إلا أنه ليس من الأولويات الحالية.

المصدر: جريدة الأهرام