رئيس الرقابة المالية المصرية: دعم رواد الأعمال والشركات الناشئة ليس مبادرة مؤقتة بل استراتيجية لبناء اقتصاد مستدام
فنتيك جيت: ريهام علي
أكد الدكتور محمد فريد، رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية المصرية، أن فكرة دعم ومساندة الشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة، وأصحاب الأفكار الريادية، ليست مجاملة من الدولة أو مبادرة مؤقتة، بل هي نهج استراتيجي يؤمن بأن هؤلاء هم الذين يدفعون عجلة النمو، ويقدّمون أفكارًا تساعد الأجهزة الرقابية والتنظيمية على تطوير بيئة الأعمال وتشريعاتها بشكل مستمر.
وقال فريد خلال فاعليات النسخة الأولى من قمة “مركز ابتكار للتكنولوجيا العقارية(PropTech Summit)” الذي نظمته رايز أب” بالتعاوت مع شركة مصر إيطاليا العقارية إنّ الحقيقة التي يجب الاعتراف بها هي أن رواد الأعمال أنفسهم هم الذين يقدّمون للجهات التنظيمية الأفكار والمحفزات اللازمة لتطوير القوانين والإجراءات، مضيفًا: “نحن نحاول أن نساند الشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة، لكن في الحقيقة هم الذين يساعدوننا. هم من يمنحوننا الأفكار التي يجب أن نطوّرها حتى نتمكن من دعمهم وتنمية الأسواق التي يعملون فيها، سواء على مستوى التنظيمات أو التشريعات.”
وأوضح فريد أن الهيئة عملت خلال الفترة الماضية على تطوير أدوات جديدة وتنظيم مجالات ابتكارية، مثل منصات التمويل الجماعي (Crowdfunding Platforms) في قطاع العقارات، وكذلك أدوات تقييم الشركات (Valuation)، وغيرها من المجالات التي تتطلب تحديثًا تشريعيًا مستمرًا لاستيعابها.
وأكد أن جميع الاقتصادات المتقدمة قامت على أشخاص لديهم أفكار طموحة، سواء كانوا شبابًا أو أصحاب خبرة، لديهم الرغبة في تحويل الفكرة إلى واقع، ومع مرور الوقت، تتحول هذه الفكرة إلى شركة، ثم إلى مؤسسة كبرى، ثم إلى لاعب رئيسي في الاقتصاد الوطني.
ريادة الأعمال نواة الاقتصاد الحديث
وأضاف فريد أن الدول لا يمكن أن تبني اقتصادًا قويًا من دون طاقة بشرية تمتلك الرغبة في تحويل الأفكار إلى مشاريع حقيقية، قائلاً: “لو لم يكن لدينا هذه الطاقة الموجودة لدى الشباب أو أصحاب الأفكار، لما كانت لدينا الشركات الكبرى التي نراها اليوم. فكل شركة كبيرة بدأت صغيرة، وكل قصة نجاح بدأت بمحاولة، ثم عمل وإصرار، حتى وصلت لما هي عليه الآن.”
وأشار إلى أن هذه هي الرحلة الطبيعية للنمو الاقتصادي، إذ تبدأ من الأفكار الجريئة، ثم تتحول إلى تجارب عملية، ثم إلى كيانات مؤثرة قادرة على النمو والتوسع.
وقال فريد إن أحد الحضور تحدث عن تجربة مصر إيطاليا العقارية وكيف بدأت كشركة صغيرة في وقت كانت السوق تهيمن عليها كيانات ضخمة في المقاولات والتطوير العقاري، ومع مرور السنوات، تحولت من مشروع ناشئ إلى مؤسسة رائدة في القطاع، وهذه القصة تتكرر في مجالات مختلفة داخل مصر وخارجها.
أضاف: “لو لم تنجح هذه النماذج لما كانت لدينا الشركات الكبيرة اليوم. الفكرة تبدأ صغيرة، لكنها تحتاج إلى بيئة حاضنة وثقافة تتقبل التجربة والفشل قبل النجاح.”
الهيئة العامة للرقابة المالية ودورها التنظيمي
وأوضح فريد أن الهيئة العامة للرقابة المالية هي الجهة المنوط بها تنظيم ومراقبة كل ما هو غير مصرفي أو مرتبط بالمدفوعات، مشيرًا إلى أن مظلة الهيئة تشمل صناديق الاستثمار، وسوق المال، وشركات السمسرة، والتمويل غير المصرفي بأنواعه المختلفة مثل التمويل العقاري والاستهلاكي والتأجير التمويلي والتخصيم، وكذلك شركات التسوية والبورصات الخاصة بالسلع والأدوات المالية.
وأضاف أن الهدف الرئيسي من عمل الهيئة خلال السنوات الماضية لم يكن مجرد الرقابة التقليدية، بل فهم طبيعة السوق وتبسيط الإطار التنظيمي بما يسمح بالنمو والابتكار في وقت واحد، موضحًا أن عملية الإصلاح والتحديث استغرقت آلاف الساعات من العمل المتواصل.
> “الناس تعتقد أن كونك جهة رقابية يعني أنك تعيق الشركات، لكن في الحقيقة، دورنا أن نحمي المستثمرين والمتعاملين، ونضمن أن السوق يسير في إطار منظم وواضح. فالقوة الحقيقية لأي نشاط هي في كونه منظَّمًا وخاضعًا للرقابة، لأن ذلك ما يمنح الثقة للمستثمرين.”
الرقابة ليست عبئًا.. بل قوة للشركات
وأوضح فريد أن وجود جهة رقابية لا يُعد عبئًا على الشركات، بل عاملًا أساسيًا في جذب الاستثمارات، لأن المستثمرين يبحثون دائمًا عن أسواق منظمة يمكن الوثوق بها.
> “أن تكون خاضعًا للرقابة (Being Regulated) هو مصدر قوة، وليس عائقًا. فالشركات التي تعمل ضمن منظومة منظمة لديها مصداقية أكبر لدى المستثمرين والممولين، كما أن الإطار القانوني المنضبط يفتح لها آفاقًا للتوسع.”
وأضاف أن غياب الرقابة أو وضوح الإطار التنظيمي لأي نشاط جديد يجعل المستثمرين متخوفين من الدخول فيه، إذ يربط رأس المال وجوده في السوق بمدى وضوح القوانين والجهات الرقابية المشرفة عليه.
وضرب فريد مثالًا بشركات حاولت أن تقدّم نماذج مبتكرة في التمويل أو التقييم أو التكنولوجيا المالية لكنها واجهت صعوبة في جذب المستثمرين لأن أنشطتها لم تكن خاضعة لتنظيم واضح.
أردف قائلا: “المستثمرون كانوا يقولون: نحن مترددون لأن هذا النشاط لا يخضع لجهة رقابية محددة. كنا نرى هذا الخوف منطقيًا، لذلك بدأنا نعمل على تنظيم هذه الأنشطة الجديدة بدلًا من تركها في مساحة رمادية بين المسموح والممنوع.”
إطلاق ترخيص “الشركات الناشئة” لتنظيم التجربة والتمويل
وتابع فريد قائلًا إن الهيئة العامة للرقابة المالية أطلقت مبادرة غير مسبوقة تتمثل في إصدار ترخيص مؤقت خاص بالشركات الناشئة (Startup License) في مجالات التمويل غير المصرفي (NBFIs)، مثل التمويل العقاري والاستهلاكي، والتأجير التمويلي، والتخصيم.
> “أردنا أن نمنح الشركات المبتكرة فرصة لتجربة أفكارها في بيئة منظمة دون أن نلزمها منذ البداية بكافة متطلبات الرقابة الكاملة. لذلك أطلقنا ترخيص الشركات الناشئة الذي يتيح لها العمل لمدة سنتين كمرحلة تجريبية، قبل الانتقال إلى الترخيص الكامل.”
وأوضح أن هذا الترخيص مكّن عددًا من الشركات من جذب استثمارات جديدة فور حصولها عليه، لأن المستثمرين أصبحوا أكثر ثقة في التعامل مع أنشطة خاضعة للرقابة الرسمية، لافتا إلى أنه “بمجرد حصول الشركات على الترخيص، بدأت فورًا في التواصل مع مستثمرين جدد ودخلت استثمارات حقيقية في رأس مالها، واستطاعت أن تواصل تجربتها بثقة وأمان. هذه التجربة أكدت لنا أن التنظيم الذكي لا يقيّد الابتكار، بل يفتح له الطريق.”
وأشار فريد إلى أن الهدف من هذه الخطوة ليس فقط تسهيل التمويل، بل تمكين الأفكار الجديدة من إثبات جدواها في سوق منضبطة، مضيفًا:”نحن نؤمن أن الفكرة المبدعة تحتاج إلى بيئة تسمح لها بالتجربة، لا أن تفرض عليها قيودًا تعيقها منذ البداية. التجربة قد تنجح وقد تفشل، لكن المهم أن تكون منظمة وواضحة حتى يستفيد الجميع من نتائجها.”
ثقافة التجربة والفشل جزء من ريادة الأعمال
وأوضح فريد أن في مصر – كما في كثير من الدول – ما زال البعض يربط التجربة بالفشل، ويعتبره عيبًا أو إخفاقًا، مؤكدًا أن هذا المفهوم يجب أن يتغير، لأن الفشل هو جزء طبيعي من رحلة التعلم والنجاح.
أضاف: “في العالم كله، من بين كل عشر شركات ناشئة، تفشل ثمانٍ وتنجح شركتان فقط. وهذه النسبة طبيعية ومتكررة، بل ومطلوبة، لأن ضمن هاتين الشركتين الناجحتين توجد التجربة التي تغيّر السوق وتخلق القيمة.”
كما أضاف أن ليس كل الشركات الناجحة يجب أن تصبح مثل فيسبوك أو أمازون، بل يكفي أن تكون شركات متوسطة قوية توفر وظائف وتدعم السوق وتضيف قيمة اقتصادية حقيقية.
مشيرا إلى أنه ليس المطلوب أن تكون كل الشركات مثل أمازون، لكن المطلوب أن يكون لدينا شركات متوسطة قوية تمثل العمود الفقري للاقتصاد، وتربط بين الكبار والصغار في منظومة متكاملة.
تجربة الرائد وتحمل المسؤولية
وتحدّث فريد عن التحديات التي يواجهها رائد الأعمال في بدايات مشواره، موضحًا أن الضغط النفسي والإداري والمالي جزء من الرحلة، وأن ريادة الأعمال ليست لقبًا أو منصبًا بقدر ما هي قدرة على التحمّل والمثابرة.
وقال: “اللي بيبدأ شركة جديدة لازم يعرف إن الشغل مش رفاهية. هو اللي هيتابع المصروفات، وهيدير الفريق، وهيتعامل مع الأزمات، وهيدفع الإيجار، وهيتأكد إن الشركة ما تقعش. المسؤولية مضاعفة، والضغوط مستمرة، لكن ده جزء من بناء الحلم.”
وأضاف أن الانتقال من القطاع الخاص إلى العمل العام منحه نظرة أعمق لفهم ما يواجهه رواد الأعمال من تحديات، مشيرًا إلى أن الهيئة تسعى لتقديم بيئة تنظيمية مرنة تدعمهم وتمنحهم مساحة للتجربة دون المساس بالضوابط العامة للسوق.
التنظيم الذكي هو ضمانة المستقبل
واختتم رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية حديثه بالتأكيد على أن التنظيم الذكي هو الذي يوازن بين الحرية والانضباط، قائلاً: “دورنا ليس أن نُفكر بدلاً من رواد الأعمال، ولكن أن نمنحهم المساحة ليبدعوا ضمن منظومة واضحة وآمنة. الفكرة تخص صاحبها، والمخاطرة جزء من النجاح، ونحن هنا لنضمن أن الطريق منظم وآمن للجميع.”
وأشار فريد إلى أن الهيئة ماضية في تطوير التشريعات المالية غير المصرفية لتكون بيئة حاضنة للابتكار وليست عائقًا أمامه، مضيفًا أن الرقابة الفعالة هي الضمان الحقيقي لثقة المستثمرين المحليين والأجانب في السوق المصرية.
أكد أن مصر تملك شبابًا مبتكرًا، وأفكارًا طموحة، وسوقًا كبيرة. إذا جمعنا بين التنظيم المرن والجرأة في التجربة، سنكون أمام اقتصاد أكثر قوة واستدامة، ومركزًا إقليميًا لريادة الأعمال والتمويل المبتكر في المنطقة.”







