فنتيك جيت: ريهام علي
أكد الدكتور محمد فريد، رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية، أن الفترة الماضية شهدت تعاونًا وثيقًا بين الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة والهيئة العامة للرقابة المالية لوضع منظومة تقييم معتمدة للشركات الناشئة، بعد أن واجهت هذه الشركات صعوبات كبيرة عند تنفيذ زيادات رؤوس أموالها بسبب غياب معايير واضحة لتقييم قيمتها السوقية.
وقال فريد خلال فاعليات النسخة الأولى من قمة “مركز ابتكار للتكنولوجيا العقارية(PropTech Summit)” الذي نظمته رايز أب” بالتعاون مع شركة مصر إيطاليا العقارية إن الشركات الصغيرة والناشئة حين كانت تسعى إلى زيادة رأسمالها كانت تصطدم بإشكالية رئيسية، وهي أن الجهات الرسمية لم تكن تمتلك معايير تقييم متفق عليها أو معترف بها، ما كان يدفعها للجوء إلى هيئة الاستثمار بطلبات تقييم لم تكن تخضع إلا للطرق التقليدية، كحصر الأصول المادية من سيارات أو معدات أو عقارات، دون النظر إلى القيمة المستقبلية أو الابتكارية أو التقنية للمشروع.
أضاف: “الشركات كانت تذهب إلى هيئة الاستثمار، وعن حق، كانت تواجه مشكلة حقيقية، إذ لم تكن هناك معايير لتقييم الشركات الناشئة، وبالتالي كان يتم اللجوء إلى الأساليب الاعتيادية في التقييم المعتمد على الأصول المادية فقط، وهذا غير عادل لشركات فكرتها قائمة على التكنولوجيا أو الخدمات الرقمية.”
وأوضح فريد أن هذه المشكلة كانت تُعيق دخول مستثمرين جدد أو رفع رأسمال الشركات الناشئة، لأن القيمة العادلة للشركة لم تكن تُحتسب وفق معايير تتناسب مع طبيعة نشاطها أو قدرتها على النمو والتوسع.
إصدار أول معايير لتقييم الشركات الناشئة بالتنسيق مع هيئة الاستثمار
وأشار فريد إلى أن الهيئة العامة للرقابة المالية عملت على إعداد وإصدار أول معايير رسمية لتقييم الشركات الناشئة في مصر، بالتنسيق مع هيئة الاستثمار وعدد من الجهات الفاعلة في السوق، من بينها الجمعية المصرية لمديري الاستثمار (ECMA)، التي تضم المؤسسات العاملة في مجال إدارة الاستثمارات ورؤوس الأموال.
أوضح: “لم نضع هذه المعايير من جانب واحد، بل تحدثنا مع المؤسسات التي تستخدم التقييم بشكل فعلي، لأننا كجهة رقابية نصدر القواعد، ولكن المستخدمين الحقيقيين هم مديري الاستثمار، والمستثمرون الذين يضخون رؤوس الأموال في هذه الشركات.”
وأوضح فريد أن الهيئة درست التجارب الدولية في تقييم الشركات الناشئة ودمجتها مع البيئة المصرية، حتى لا تكون المعايير مجرد نقل ميكانيكي لتجارب أجنبية، بل منظومة واقعية تراعي طبيعة السوق المحلية، فتم إعداد وثيقة متكاملة بمعايير تقييم الشركات الناشئة، ثم عرضها على مجلس إدارة الهيئة العامة للرقابة المالية واعتمادها رسميًا في عام 2023.
أضاف “أصدرنا هذه المعايير رسميًا، وتم إرسالها إلى هيئة الاستثمار التي بدورها اعتمدتها كمرجعية رسمية لعمليات تقييم الشركات الناشئة. وقد تلقيت خطابًا من المهندس حسام هيبة، الرئيس التنفيذي لهيئة الاستثمار، يعلن فيه اعتماد هذه المعايير كمرجع أساسي في تقييم الشركات عند زيادات رؤوس الأموال، وهو أمر أسعدني كثيرًا لأنه يعكس وحدة الرؤية بين الهيئتين.”
خطوة مفصلية لتمكين الاستثمار وتوسيع قاعدة الملكية
وبيّن فريد أن هذه الخطوة تمثل نقلة نوعية في بيئة الاستثمار المصرية، إذ أصبحت الشركات الناشئة قادرة على إدخال مستثمرين جدد ورفع رؤوس أموالها بناءً على تقييم مهني وشفاف ومعتمد، يسمح بتحويل الاستثمارات إلى أسهم وفق آلية رسمية وواضحة.
قال: “الآن يمكن لأي مستثمر يرغب في الدخول إلى شركة ناشئة أن يشارك في زيادة رأس المال وهو يعلم أن التقييم تم وفق معايير مهنية معتمدة. فإذا قبل المخاطرة وارتضى بالقيمة، فالمسؤولية تقع عليه كمستثمر، لكن الإطار العام أصبح منظمًا وواضحًا، مما يعزز الثقة بين الأطراف كافة.”
أضاف أن هذه الخطوة كانت الشرط الأول لبناء سوق حقيقية لرأس المال المخاطر (Venture Capital)، لأن المستثمرين المحليين والأجانب كانوا بحاجة إلى آلية قانونية تضمن لهم أن تقييم الشركات مبني على أسس علمية يمكن الوثوق بها.
خلق أدوات تمويل جديدة لدعم النمو
وأشار فريد إلى أنه بعد الانتهاء من وضع معايير التقييم، بدأت الهيئة في معالجة المرحلة التالية من دورة نمو الشركات الناشئة، وهي كيفية تمويل التوسع بعد النجاح الأول. فتم السماح بتأسيس شركات يكون نشاطها الرئيسي الاستثمار في الشركات الصغيرة والمتوسطة أو الاستحواذ على حصص فيها.
أوضح: “سمحنا بإنشاء شركات هدفها الأساسي تمويل الشركات الصغيرة والناشئة عبر شراء نسب محددة من الأسهم، مثل 10% أو 20% أو 40% في كل شركة، وليس بالضرورة الاستحواذ الكامل. هذا يخلق دورة تمويلية مستمرة تدعم الشركات التي تنجح وتحتاج إلى زيادة رأس المال أكثر من مرة.”
كما أوضح أن هذه المنظومة تعالج مشكلة نقص السيولة في مراحل النمو المتقدمة للشركات الناشئة، وتمنحها إمكانية الحصول على تمويل مستمر من مستثمرين متخصصين دون الحاجة إلى الاعتماد فقط على الصناديق أو التمويلات الفردية.
التجارب الدولية والنماذج المحلية
وأشار رئيس الهيئة إلى أن النموذج المصري الجديد مستلهم من التجارب الأوروبية والأمريكية التي واجهت المشكلة نفسها، حيث احتاجت الشركات الصغيرة إلى مستثمرين متوسطين يستطيعون توفير التمويل المستمر دون السعي إلى السيطرة الكاملة.
وأضاف أن مصر بدأت بالفعل في تنفيذ هذا النموذج، إذ تم تأسيس شركتين تعملان ضمن هذا الإطار، إحداهما تابعة لكيان كبير في السوق، والأخرى تستهدف الاستحواذ على حصص في شركات صغيرة واعدة، مؤكدا أن “هذا التطور العملي يعني أننا لم نعد نتحدث فقط عن تشريعات على الورق، بل أصبح لدينا شركات بالفعل تُمارس هذا النشاط وتضخ تمويلًا حقيقيًا في السوق.”
تنويع مصادر التمويل وإشراك المؤسسات الكبرى
وبيّن فريد أن التحدي الأكبر في أي منظومة تمويل هو تنويع مصادر رأس المال بحيث لا تظل معتمدة على المبادرات الحكومية أو التمويل الأولي فقط، مؤكدًا أن الهيئة عملت على جذب مؤسسات كبرى مثل شركات التأمين وصناديق الاستثمار لتكون جزءًا من المنظومة.
أردف قائلا: “كنا نواجه مشكلة حقيقية؛ شركات التأمين كانت تقول إنها لا تستطيع ربط أموالها لفترات طويلة في بيئة تضخمية، لكننا أوجدنا حلًا من خلال إتاحة أدوات استثمارية مرنة تسمح لها بالدخول والخروج بسهولة عند الحاجة.”
وأضاف أن الهيئة أطلقت ما يُعرف بـ الـBasis Package لتوفير هيكل تمويلي جديد يسمح لهذه المؤسسات بالمشاركة في تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة وشركات التكنولوجيا المالية (FinTech) وشركات التكنولوجيا التأمينية (InsureTech) وغيرها من القطاعات المبتكرة، مع ضمان إمكانية التخارج في أي وقت.
ثقافة التنظيم والرقابة كقوة دافعة
وشدد فريد على أن الانضباط التنظيمي والرقابي ليس عبئًا كما يُعتقد، بل هو عنصر أساسي في بناء الثقة بين المستثمرين والشركات، قائلاً: “نحن نؤمن تمامًا بقوة التنظيم — The Power of Being Regulated. حتى لو كانت الرقابة تتضمن بعض الأعباء الإدارية، فإن العائد من كونك شركة خاضعة للرقابة أكبر بكثير من العمل دون إشراف. المستثمر حين يعلم أن هناك جهة تفتش وتراجع، يشعر بالأمان ويزيد استعداده للمخاطرة بشكل محسوب.”
وأوضح أن الهيئة لا تكتفي بالرقابة المالية والإدارية فقط، بل تمتد أيضًا إلى الرقابة التكنولوجية لضمان توافق الشركات الناشئة التي تعتمد على الأنظمة الرقمية مع متطلبات الأمان والحوكمة، مضيفًا أن الهيئة تراجع الأنظمة التقنية للشركات تمامًا كما تراجع بياناتها المالية.
تكامل الدولة والقطاع الخاص لبناء منظومة ابتكار مستدامة
وفي ختام كلمته، أكد الدكتور محمد فريد أن ما تحقق من تنسيق بين هيئة الرقابة المالية وهيئة الاستثمار ومؤسسات السوق المختلفة يمثل تحولًا جوهريًا في هيكل الاقتصاد المصري، حيث أصبح الابتكار جزءًا من السياسات التنظيمية الرسمية وليس خارجها.
> “نحن اليوم نخلق منظومة تمويل متكاملة تدعم الفكرة منذ ولادتها وحتى تحوّلها إلى كيان كبير. لدينا معايير للتقييم، وترخيص للشركات الناشئة، وأدوات تمويلية جديدة، ومستثمرون مؤسسيون يدخلون بثقة. هذه هي الدورة الكاملة التي تصنع اقتصاد المستقبل.”
واختتم قائلاً: “الابتكار لا يعيش في فراغ. يحتاج إلى تنظيم، ومتابعة، وتمويل، وثقة، وعندما تتكامل هذه العناصر كما يحدث اليوم في مصر، نكون على الطريق الصحيح نحو بناء اقتصاد قادر على المنافسة محليًا وإقليميًا وعالميًا.”







