التكنولوجيا المالية وأسواق المال.. نقطة تحول

في السنوات الأخيرة، ظهر جيل جديد من الشركات الناشئة للتكنولوجيا المالية الداعمة للمؤسسات المالية ومقدمي الحلول الرقمية مما أدى إلى قلب أوضاع الأسواق المالية في جميع أنحاء العالم من خلال الاستفادة من الابتكارات التكنولوجية في مجال التمويل. وفي ظل هذا التطور السريع، يستدعي الأمر اتباع أساليب تضمن توظيف ثورة التكنولوجيا المالية لصالح المجتمع والاقتصاد مع مراعاة حماية المستهلكين والنظام المالي.

لقد تطور مجال التمويل بفضل التطورات التكنولوجية على مدى العصور. إلا أنه على مدار العقد الماضي، ساهمت الابتكارات القائمة على التكنولوجيا في مجال التمويل في تعزيز إمكانية حصول المستهلكين على العديد من الخدمات في مجال المدفوعات والإقراض والتأمين والادخار والاستثمار ؛ وأصبح ذلك في متناول أيديهم بوتيرة ونطاق غير مسبوقين.

2.5 مليار دولار حجم سوق التكنولوجيا المالية العربي خلال 2022

من المتوقع أن تساهم التكنولوجيا المالية في تعزيز الشمول المالي لملايين الأفراد والمشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة بالبلدان العربية عن طريق التغلب على العوائق التقليدية. ومن المتوقع أن تبلغ قيمة السوق في المنطقة مبلغا ضخما يعادل 2,5 مليار دولار بحلول عام 2022.

وبفضل استخدام الأدوات الجديدة مثل التكنولوجيا الإشرافية (SupTech) ؛ يمكن للجهات التنظيمية أن تتعامل مع الموقف بنجاح والقيام بمعالجة المخاطر الناشئة بشكل أفضل، وتحقيق التوازن بين ترويج التكنولوجيا المالية والشمول المالي والاستقرار والنزاهة وحماية العملاء.

إن تقنية البلوك تشين المبنية على تقنية السجل اللامركزي هي واحدة من أشهر ابتكارات التكنولوجيا المالية بجانب الذكاء الاصطناعي والخدمات السحابية والبيانات الضخمة ويتم استخدامها بسبب كفاءتها للوصول إلى سوق أكبر وأشمل بسرعة وآمان وتكلفة أقل.  فعلى سبيل المثال، يتم الاستخدام التقنية في المقاصة والتسوية، وتحويل الأموال عبر الحدود، ومدفوعات الأفراد ، والعملات الرقمية، والهويّة الرقمية.

تربط التكنولوجيا المالية بين قطاعي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والقطاع المالي؛ وهذه القطاعات تعتبر أسواقا للنمو وعوامل تمكينية للاقتصادات العربية. وتوجد أعداد متزايدة من الشباب المتعلمين بشكل جيد وعلى دراية جيدة للتعامل مع التكنولوجيا الحديثة إلا أنهم لا يحصلون على وظائف لائقة، مما يجعلهم يتبنون الخدمات المبتكرة أو يبدأون مشروعات من هذا النوع. إن المؤسسات المالية و الهيئات الحكومية تضغط من أجل الحصول على الابتكارات في مجال التمويل مدفوعة بالتحسينات في البنية الأساسية وإمكانات السوق الهائلة من الأشخاص التي لا تقوم البنوك بخدمتهم بالمنطقة العربية (63% من عدد البالغين – وفقا للبنك الدولي) وكذلك الشركات (فجوة تمويل بمقدار 2.5 مليار دولار – وفقا لمؤسسة التمويل الدولية) والشركات الناشئة والشركات التكنولوجية الكبرى التي لديها أموال ضخمة وتجميع للبيانات.

85% من الشركات الناشئة تعاني من اللوائح التنظيمية

يواجه اعتماد التكنولوجيا المالية تحديات متعددة. وتعتبر اللوائح التنظيمية القديمة هي العقبة الأولى أمام نمو شركات التكنولوجيا المالية الناشئة، مما يزيد من الالتفاف حول اللوائح التنظيمية. فقد أظهرت دراسة  أن ما يزيد عن 85% من شركات التكنولوجيا المالية كانت مستعدة للمغادرة إلى بلدان أخرى بسبب اللوائح التنظيمية. ونظرا لأن التكنولوجيا لا تعرف الحدود وتتطلب وجود نطاق واسع لتحقيق الربح، إن الشركات متعددة الجنسيات لديها ميزة على الشركات المحلية الناشئة التي تجد صعوبة في التوسع في أسواق جديدة عبر الحدود. وأهم ما في الأمر أن العالم الجديد ليس ملئ بالفرص فقط بل انه محفوف أيضا بمجموعة من المخاطر مخاطر المعروفة والمجهولة على عدة مستويات بدءا من الأفراد (خرق أمن البيانات وانتهاك خصوصية البيانات والتمييز و ما شابه ذلك) ووصولا إلى النظام المالي ( الغش والاحتيال والفيروسات والاستبعاد والهجمات الإلكترونية وعدم الاستقرار).

وإدراكا لأهمية التكنولوجيا المالية وسرعة وتيرة التطورات، تقوم العديد من البنوك المركزية والسلطات النقدية حول العالم بدور رائد في اختبار الحلول بشكل فعّال من أجل منفعة أكبر لعامة الناس. فعلى سبيل المثال، قامت سلطة النقد في سنغافورة مؤخرا بالانتهاء من تجربة للقيام بإجراء المدفوعات بين البنوك وتسويات الأوراق المالية عن طريق استخدام تقنية البلوك تشين. كما قام بنك كندا بتجربة مشروع يستهدف التحويلات النقدية بين البنوك. إن مثل هذه التطبيقات من شأنها جذب الانتباه إلى مدى الإمكانات المتوفرة أمام العالم العربي.

إن المنتدى العربي الأول للتقنيات المالية الحديثة الذي انعقد في ديسمبر/كانون الأول الماضي في إطار مبادرة الشمول المالي للمنطقة العربية كان من شأنه إفساح المجال للجهات التنظيمية والمهنيين والخبراء من أجل دراسة الإمكانات المحتملة للتكنولوجيا المالية بالمنطقة. وقد أبرزت البلدان بالفعل مشروعات مثيرة للإعجاب مثل : شركة  بيكوك فاينانشالز Peaqock Financials ( شركة مغربية تقوم بتوفير منصة للتقارير والتحليلات)، وشركة آتكاش AtCash (شركة إماراتية تقدم حلولا للهويّة الرقمية قائمة على تقنية السجل الموزع)، وشركة نيومان Neumann  (شركة لبنانية تقوم بتوفير منصة للبيانات القائمة على الذكاء الاصطناعي)، والمبادرة الحكومية “دبي الذكية”.

إن البيئة التي يتواجد بها الحوار واجتماعات التطوير وورش العمل تساهم في تقليص الوقت الذي تستغرقه شركات التكنولوجيا المالية من أجل الوصول بحلولها المبتكرة إلى السوق، مما يسمح لها بتوسيع نطاق الحلول أو تجربتها عبر الحدود بشكل عادل وبكفاءة عالية.

يوجد إذا مجال كبير لإنشاء نظام أساسي تمكيني لكي يظهر المزيد من شركات التكنولوجيا المالية التحويلية. وتحتل الإمارات العربية المتحدة المرتبة الأولى بين الدول العربية المدرجة في مؤشر الابتكار العالمي؛ فهي تحتل المركز 38 عالميا ، تليها قطر والسعودية في المرتبة 51 و61 على التوالي.

ولكي يتواجد نظام أساسي مشترك يؤدي إلى الابتكار المالي في المنطقة العربية، هناك الحاجة إلى إجراءات في المجالات الثلاثة التالية:

التعاون التنظيمي: يوجد مجال لتهيئة بيئة آمنة للسلطات التنظيمية من أجل تبادل الخبرات المتعلقة بحلول التكنولوجيا وتبادل المعلومات الإشرافية والتعاون في حل مشاكل التكنولوجيا المالية الناشئة وعمل لوائح تنظيمية ذكية.

التعلّم التنظيمي: يمكن للسلطات المالية بناء قدرات مؤسسية عن طريق إلحاق الخبراء التقنيين وصنّاع القرار بدورات تدريبية وجلسات تعلم بين الأقران والاستفادة من الممارسات الدولية الجيدة عن أساليب البلدان في الوصول إلى التكنولوجيا الحديثة.

التجربة التنظيمية: إن السلطات على المستوى الثنائي أو متعدد الأطراف يمكن لها اعتماد تطبيق اختبارات مشتركة للوصول إلى التكنولوجيا التنظيمية RegTech  المناسبة، وكذلك لمواءمة أساليب منح التراخيص. إن البيئة التي يتواجد بها الحوار واجتماعات التطوير وورش العمل تساهم في تقليص الوقت الذي تستغرقه شركات التكنولوجيا المالية من أجل الوصول بحلولها المبتكرة إلى السوق، مما يسمح لها بتوسيع نطاق الحلول أو تجربتها عبر الحدود بشكل عادل  بكفاءة عالية.

إن وجود إطار عمل جديد للتعاون بين الجهات التنظيمية المالية في الموضوعات المتعلقة بالابتكار من شأنه أن يساعد على بناء قدرات مؤسسية وتعزيز ظروف إطار العمل المتكامل إقليميا من أجل التوسع في تكنولوجيا التمويل عبر الحدود، والمتعلقة بالشمول والاستقرار والنزاهة واعتبارات الحماية. وقد ظهرت بالفعل مبادرات دولية لأطر جديدة للتعاون على نطاق يتجاوز النطاق الإقليميلاختبار و تجربة أو لتعزيز تقنية  البلوك تشين وحلول التكنولوجيا المالية مثل: رابطة دول جنوب شرق آسيا (آٍسيان) للابتكار المالي (AFIN)، والشبكة العالمية للابتكار المالي (GFIN).  تقومAFIN  حاليا بتشغيل سوق برمجة واجهة التطبيقات ومنصة بيئة الاختبار(APIX) ؛ بينما GFIN  لا تزال في مرحلتها الأولى حيث توجد خطط لتقديم منهجية  لبيئة مشتركة لاختبار خدمات جديدة في مناطق متعددة بالإضافة إلى توفير منتدى لتبادل المعرفة عبر الحدود.

ومع اندفاع كل من الشركات الناشئة والشركات القائمة إلى السوق باستخدام حلول تقنية جديدة، كان لا بد من وجود نظام أساسي داعم في المنطقة العربية قائم على التعاون والتعلّم والتجربة من أجل تعزيز القطاعات المالية وتبنّي الابتكار، وذلك لإتاحة الفرصة لنمو العملاء وازدهار الأسواق ولإرشاد البلدان التي في الطريق إلى رقمنة اقتصاداتها. وعن طريق توحيد الجهود، بإمكان صانعي السياسات المالية والمناصرين ووكلاء التغيير استغلال هذه الإمكانات الهائلة لصالح التنمية الاقتصادية المستدامة في المنطقة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.