عندما لجأت جولي للمرة الأولى إلى نظام الشراء الآن والدفع لاحقًا في شهر يناير، رأت أنه خيار بديهي للتعامل مع الفواتير، وتقول: “الأطفال يكبرون بسرعة، وتقسيم المبلغ المراد سداده على ثلاث دفعات بدا أمرًا منطقيًا لأتمكن من توزيع تكاليف بعض الأزياء المدرسية الجديدة”.
وبمجرد أن تمكنت عاملة الرعاية الاسكوتلندية، التي طلبت عدم الإفصاح عن اسمها بالكامل، من سداد هذه التكاليف وصلتها فاتورة أخرى خاصة برحلة مدرسية. اعتمدت جولي على نظام الشراء الآن والدفع لاحقًا في دفع فاتورة الرحلة وفواتير استهلاك الطاقة ومشتريات البقالة بسبب ارتفاع الأسعار. وتقول إنها عندما تأخرت في دفع 5 جنيهات إسترلينيه، حملها مقدم الخدمة مصروفات بقيمة 6 جنيهات. وعندما لجأت جولي إلى إحدى مؤسسات الإقراض الاجتماعي غير الهادفة للربح Scotcash لمساعدتها، كانت قد وصلت قيمة المصروفات المستحقة عليها إلى 325 جنيهًا إسترلينيًا إضافةً إلى مديونية بقيمة 400 جنيهٍ مدفوعات بنظام الدفع الآن والشراء لاحقًا.
تجدر الإشارة إلى أن الزخم الكبير لظاهرة الشراء الآن والدفع لاحقًا سببه ازدهار التجارة الإلكترونية في فترة الجائحة، وأصبحت هذه الظاهرة شائعة في تجارة التجزئة مما جعل أسماء الشركات المعروفة مثل شركة المدفوعات السويدية Klarna أعلى شركة ناشئة تقنية في أوروبا من حيث القيمة في جولة التمويل الأخيرة في يوليو 2021.
إلا أن نموذج العمل التجاري الخاص بهذا القطاع يتعرض لضغوط شديدة، فارتفاع أسعار الطاقة والعقارات يجبر المستهلكين على تخفيض ميزانياتهم ويؤثر سلبًا على الإنفاق، لكنه في الوقت نفسه يزيد من مخاوف عدم قدرة الأشخاص على سداد المدفوعات المستحقة عليهم في أنظمة الشراء الآن والدفع لاحقًا. وفي الوقت ذاته، يهدد ارتفاع أسعار الفائدة بزيادة تكاليف التشغيل، والادعاءات بعدم وجود شفافية كافية بخصوص مخاطر الديون والمصروفات، وبالتالي إثارة رد فعل تنظيمي عنيف.
تعمل شركة Klarna على تخفيض العمالة بنسبة 10% وسط توقعات بأنها تحصل على تمويل بتقييم أقل بكثير، ومع انخفاض أسعار أسهم بعض الشركات المدرجة في البورصة بنسب وصلت إلى 90% على مدار العام الماضي، فإن هذا القطاع على وشك اكتشاف ما إذا كانت الوعود بالحصول على خدمات ائتمانية ميسرة لمعالجة مشكلات تجارة التجزئة تستطيع الصمود أمام أزمة تكاليف المعيشة.
يقول أمان بهزاد الشريك الإداري في شركة Royal Park Partners الاستشارية المتخصصة في التقنيات المالية: “مع نظام الشراء الآن والدفع لاحقًا، تواجه (الشركات) ضربة ثلاثية تتمثل في تحقيق إيرادات أقل، وارتفاع التكاليف، وتدهور جودة القروض”.
جاذبية الأموال بدون فوائد
تكمن جاذبية هذه الخطط الشرائية في: أنها تسمح للزبائن بتأخير أو توزيع تكاليف المشتريات دون دفع فوائد، إلا في حالة التأخر عن السداد. وبعض مقدمي الخدمة، ومنهم Klarna، توقفوا عن تحصيل مصروفات على المدفوعات المتأخرة أو الفوائد. أما الأشخاص أصحاب التصنيفات الائتمانية الضعيفة، فهذه الخيارات مغرية لهم كما يقول المنتقدون. أما الشركات، فترى أن هذه الخيارات أكثر أمانًا للمستخدمين مقارنةً بالبدائل الأخرى مثل البطاقات الائتمانية باهظة التكلفة.
الآن، يوفر كل تجار تجزئة الملابس والأحذية تقريبًا خيار الشراء الآن والدفع لاحقًا. في أستراليا، حيث طرح عدد من مقدمي الخدمة أسهم شركاتهم في البورصة، يُستخدم هذا الخيار في عملية واحدة من بين كل خمس عمليات شراء ملابس على الإنترنت في 2021 وفقًا للبيانات المقدمة من RFI Global.
بعض مقدمي الخدمة ومنهم شركة Zilch الموجودة في لندن تسمح للمستهلكين باستخدام هذا النظام في الدفع لشراء مستلزمات البقالة وفواتير الكهرباء، على الرغم من تجنب شركات أخرى إتاحة هذا النظام لدفع النفقات الأساسية.
يدفع تجار التجزئة عمولة للشركات كما يحدث عندما يدفعون رسوم تبادل لمقدمي بطاقات الائتمان والخصم المباشر.
سهولة الاستخدام والدمج مع قطاعات مثل الأزياء أساس النمو السريع الذي يشهده هذا القطاع. وصلت قيمة السوق في المملكة المتحدة إلى 5.7 مليار جنيه إسترليني في 2021 وفقًا لتقديرات الباحثين، ما يمثل أكثر من ضعف الرقم الذي قدرته هيئة السلوك المالي Financial Conduct Authority لعام 2020.
على الرغم من أنه لا يزال يمثل نسبة قليلة من السوق الائتماني ككل، فإن توسع هذا القطاع دفع البنوك التقليدية الضخمة والبنوك الافتراضية إلى تصميم منتجات مشابهة لتتمكن من المنافسة. يقول بهزاد: “البنوك مذعورة من خسائر البطاقات الائتمانية الخاصة بالأفراد. تزداد (قيمة) البطاقات الائتمانية بمعدل 1 أو 2 في المئة سنويًا، أما نظام الشراء الآن والدفع لاحقًا فهو ينمو بنسبة 20 في المئة”.
بعض المستهلكين لا يستوعبون أن الخطوة المُقدمون عليها هي نوع من الدين، هذا ما يراه المنتقدون. “فالأمر يُعرض بأسلوب مريح وبسيط ولا توجد أي مشكلات”، هذا ما قالته تشلوي وهي عاملة في إحدى الحضانات، استخدمت هذا النظام في الدفع للمرة الأولى عندما كانت في السابعة عشرة من عمرها، وقد تراكمت عليها ديون وصلت إلى 5 آلاف جنيه إسترليني بسبب بطاقات الائتمان والشراء الآن والدفع لاحقًا قبل أن تلجأ إلى مؤسسة خيرية لدعم المديونين StepChange أعدت لها خطة سداد لمساعدتها.
ردًا على الانتقادات، أعلنت Klarna العام الماضي عن إجراءات من بينها كتابة صيغة جديدة ليفهم الزبائن “بوضوح تام” أن الخدمة المعروضة عليهم هي خدمة ائتمانية.
لكن مع ارتفاع فواتير الطاقة والتضخم، فإن الطلب المتزايد على الائتمان يحركه المستهلكون ممن لديهم سيولة نقدية محدودة، هذا ما قاله سولاب أجاروال رئيس المدفوعات الدولية في Accenture.
في الوقت نفسه، تقلصت الخيارات المتاحة أمام الأشخاص ممن لديهم تاريخ ائتماني ضعيف أو محدود. في المملكة المتحدة، كافحت الجهات المانحة للقروض عالية المخاطر في السنوات الأخيرة بعد ظهور موجة من الشكاوى، هذه الجهات المقرضة كانت قد ازدهرت في أعقاب الأزمة المالية في 2008. في عام 2018، انهارت مؤسسة Wonga التي تقدم قروض يوم الدفعPayday Lender، أما Provident Financial أنهت عملها في مجال الائتمان “مرتفع التكاليف” العام الماضي.
يقول نصف المقترضين بنظام الشراء الآن والدفع لاحقًا في المملكة المتحدة إنه يصعب عليهم الاستمرار في سداد الفواتير المنزلية وسداد القروض وفقًا لاستبيان أجرته مؤسسة StepChange مقارنةً بالمتوسط عام الذي بلغ 30 في المئة. والأمر لا يقتصر على المملكة المتحدة فقط، ففي استبيان شمل 11 ألف شخص أجراه جهاز الاحتياطي الفدرالي الأمريكي US Federal Reserve تبين أن من بين 10% ممن قالوا إنهم استخدموا المنتج في العام الماضي، أكثر من النصف قالوا إنها الطريقة الوحيدة التي تمكنهم من تحمل تكاليف مشترياتهم.
تقول Klarna إن نظام الشركة “مناسب جدًا لدعم المستهلكين في إدارة تدفقاتهم النقدية دون إلقاء أعباء أي تكاليف زائدة عليهم”، وأشارت إلى أن نموذج أعمالها يموله تجار التجزئة وليس الزبائن. وتقول إنها تُجري فحوص القدرة على تحمل التكاليف على كل عملية شراء للمساعدة على تجنب “فخ الديون بسبب الائتمان المتجدد ورسوم الفائدة المرتفعة”.
وعلى الرغم من أن هذه الأنظمة قد تكون أدوات مفيدة للمستهلكين ممن يستطيعون الاستمرار في السداد، فإن من يتعثرون في السداد قد يجدون أنفسهم تحت طائلة العقاب. وتقول تشلوي التي طلبت عدم الإفصاح عن هويتها: “ينتهي الأمر بتراكم الديون عندما لا تستطيع السداد”.
أما جايمس ويلكنسون رئيس قسم الإقراض والمخاطر في شركة Fair for You وهي شركة ذات مصلحة مجتمعية، يقول إن عدد المعاملات بنظام الشراء الآن والدفع لاحقًا بين المتقدمين تضاعف تقريبًا منذ شهر أكتوبر، عندما توقفت الحكومة في المملكة المتحدة عن دفع 20 جنيهًا استرلينيًا كل أسبوع للأشخاص المستفيدين من برنامج الإعانة الاجتماعية الذي بدأته في بداية الجائحة.
يقول بنديكيت جاتمان كيني، أحد المرشحين للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة شيكاغو، والذي شارك في تقديم ورقة بحثية عن المشتريات بنظام الشراء الآن والدفع لاحقًا باستخدام البطاقات الائتمانية: “كل ذلك ينبيء بمرور شركات المدفوعات بأوقات عصيبة في المستقبل، سواءً حدث ركود أم لم يحدث، فانخفاض المبيعات وتدني الإنفاق سوف يقلل هامش الربح وسيتبقى مع الأشخاص أموال أقل مما يؤدي إلى زيادة حالات التخلف عن السداد”.
أما شركة Klarna التي كانت تحقق أرباح حتى عام 2019، فسجلت خسائر تشغيل بقيمة 748 مليون دولار أمريكي في عام 2021، ويعود ذلك جزئيًا إلى تكبد خسائر ائتمانية أعلى نتيجة ضمان عملاء جدد وغير معروفين مقارنةً بالعملاء العائدون ممن لديهم سجلات مدفوعات، ويُقال إن الخسائر الإجمالية كانت أقل من 1في المئة.
تقول إيمي جايفين كبيرة المخططين الاستراتيجيين في شركة استشارات التقنيات المالية 11:FS إن مقدمي خدمات الشراء الآن والدفع لاحقًا يسجلون في العموم ديون معدومة بنسب أعلى مقارنةً ببطاقات الائتمان، وتستشهد ببيانات من شركة معلومات المدفوعات Fraugster التي تقدر تسجيل مقدمي خدمات الشراء الآن والدفع لاحقًا ديون معدومة بقيمة 19.2 مليون دولار في المتوسط من بين معاملات بقيمة 1 مليار دولار، مقارنةً بمبلغ 270 ألف دولار في شركات البطاقات الائتمانية.
يقول مايكل تيانو كبير المديرين في مجموعة المؤسسات المالية Fitch إنه على الرغم من أن حالات التخلف عن السداد مصدرها الانخفاضات التاريخية، فالبيانات في سوق البطاقات الائتمانية توضح أن الأمر يستغرق ما بين 12 إلى 18 شهرًا بعد إنشاء الحساب لتصل نسب التأخر عن السداد إلى ذروتها.
ويضيف تيانو: “لو حدث ذلك (في نظام الشراء الآن والدفع لاحقًا) في نفس الوقت الذي يتباطأ فيه النمو، سترتفع نسبة الخسائر ارتفاعًا شديدًا”.
المخاطر التنظيمية
أما البيئة الاقتصادية الشاملة والأوسع، خصوصًا أسعار الفائدة الأعلى التي حددتها البنوك المركزية في محاولة للتصدي للتضخم المتزايد، فهي بمثابة تحدي إضافي للشركات الموجودة في السوق. يقول بهزاد: “كانت أسعار الفائدة منخفضة جدًا على مدار 10 سنوات، وعندما ترتفع تبدأ تكلفة التمويل لشركات الشراء الآن والدفع لاحقًا في الارتفاع”.
تصر شركة Klarna على أن ارتفاع أسعار الفائدة له تأثير طفيف على صافي الأرباح وأشارت إلى أن تكاليف أسعار الفائدة في 2021 شكلت 5% من نفقات التشغيل، إضافةً إلى أن ترخيصها المصرفي في أوروبا يسمح لها بطرح ودائع للأفراد لحمايتها من ارتفاع تكاليف خدمة الديون.
أما الشركات الأخرى الفاعلة في المجال فهي أقل تفاؤلًا. يقول أنتوني تومسون، رئيس شركة Zip في المملكة المتحدة: “تَعرَّض القطاع بأكمله إلى ضربة قوية يصعب وصفها. وسوف ترتفع أسعار الفائدة ارتفاعًا كبيرًا بلا شك، فهل سيؤدي ذلك إلى تكبد خسائر أكبر في القطاع؟ من المحتمل”. شركة Zip هي إحدى الشركات الأسترالية التي تقدم خدمة الشراء الآن والدفع لاحقًا، انخفضت أسعار أسهمها بنسبة 90% تقريبًا على مدار العام الماضي.
يقول جاتمان كيني إن القطاع يعاني من حالة غموض تنظيمي، وفي المملكة المتحدة ينتظر القطاع نتيجة المشاورات التي أطلقتها وزارة الخزانة.
“على الرغم من أن الشراء الآن والدفع لاحقـًا بشكله الحالي هو نظام بدون فوائد، فإنه لا يخضع لنفس القوانين التنظيمية التي تخضع لها أنواع الائتمان الأخرى مثل فحوص القدرة على تحمل التكاليف وقواعد الإعلانات. ومع تزايد أعداد الأشخاص ممن يعتمدون على الائتمان غير الخاضع للضوابط التنظيمية بسبب تكاليف المعيشة، قد يؤدي ذلك إلى مخاطر أعلى وتكبد المستهلكين أضرار مالية.”، هذا ما قالته سو أندرسن رئيسة قسم الإعلام في StepChange.
أما التفاصيل المحددة لأي قواعد تنظيمية فلا تزال غير واضحة، رغم أن الفحص الذي أجرته هيئة السلوك المالي FCA حذر العام الماضي من أن عدم وجود متطلبات بتقديم تقارير إلزامية قد يُصعب على المقرضين تقييم ما إذا كان الزبائن يستطيعون تحمل تكاليف منتجاتهم.
تزايدت أعداد الشركات التي بدأت في مشاركة المعلومات مع مكاتب الائتمان، مما يسمح للبنوك ومقدمي الخدمات الآخرين العاملين معهم باتخاذ قرارات إقراض أفضل. في مايو، أعلنت Klarna أنها سوف تبدأ في تقديم معلومات بخصوص معاملات الشراء الآن والدفع لاحقًا إلى وكالتي الائتمان Experian وTransunion في المملكة المتحدة.
بدأت الجهات التنظيمية توظيف التشريعات الحالية لإرغام بعض مقدمي الخدمة على التحرك. في فبراير، قالت هيئة السلوك المالي FCA إنها طالبت أربع خدمات بإعادة صياغة الشروط بما فيها الشروط التي تسمح بإنهاء أو تعليق أو تقييد إمكانية الوصول إلى حسابات العملاء لأي سبب دون سابق إنذار.
لكن تظل الشكوك تساور الأشخاص الذين يعانون نتيجة التأخر في السداد.
تقول تشلوي التي توقفت عن استخدام أنظمة الشراء الآن والدفع لاحقًا منذ أن لجأت إلى StepChange: “شاهدت الأخبار التي تتحدث عن الشركات التي تحاول زيادة تنظيم أنشطتها، لكن وصلتني رسالة عبر البريد الإلكتروني من شركة تعمل في الموضة السريعة تقدم خدمة توصيل مجانية مع نظام الشراء الآن والدفع لاحقًا.
وتضيف: “إنها تشجع الشباب على الاستدانة”.
اقرأ أيضا..