محمد فؤاد : قراءة في ديمغرافية السكان وصناعة المجتمعات العمرانية الجديدة في مصر

تعتبر الزيادة السكانية الكثيفة أحد أبرز التحديات التي تُواجه جمهورية مصر العربية، بالإضافة إلى تمركز هذه الزيادة بمناطق محددة في الأراضي المصرية.

فطبقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن 95,5% من سكان جمهورية مصر العربية بإجمالي حوالي 100.3 مليون نسمة يسكنون حول وادي النيل، وهو ما يشكل حوالي 7% فقط من المساحة الإجمالية لمصر. أما عدد سكان المحافظات الأخرى التي تمثل 93% من مساحة مصر الإجمالية فلا يتجاوز 4,80 ملايين نسمة، وهو ما يشكل حوالي 4,5% فقط من إجمالي تعداد سكان الجمهورية.

وتنبهت الدولة المصرية منذ نهاية السبعينيات إلى التحديات التي تفرضها الزيادة السكانية، وقامت بالبدء في مواجهتها عن طريق إنشاء المدن الجديدة في مختلفة محافظات الجمهورية، واستمرت تلك الجهود حتى الوصول إلى استراتيجية 2030، والتي تتبنى خطة طموحة لزيادة الرقعة السكانية إلى 14,5% من إجمالي المساحة بحلول عام 2030.

وتهدف مصر من وراء ذلك لإنشاء مناطق عمرانية جديدة تحقق تنمية اقتصادية فعالة توفر كافة الخدمات للمواطنين وفرص العمل ووسائل النقل المريحة والكافية من وإليها، في إطار تشجيع السكان بالفعل للانتقال الدائم للمدن الجديدة بالمعدلات الكافية، وذلك حتى لا تتحول تلك المدن إلى منشآت قائمة منخفضة الإشغال، في ظاهرة يطلق عليها أحيانًا “مدن الأشباح”.

إن إنشاء مدن جديدة يعتبر تحديًا ليس بالهين، ولكن جذب أعداد مناسبة من السكان للعيش فيها يعد هو التحدي الأكبر، خاصة أنه يستغرق بعض الوقت ويتطلب سياسات خاصة قد تكون في بعض الأحيان استثنائية، أن الحديث هنا يدور حول المدن التي تكون نسبة السكان بها أقل بصورة كبيرة من المستهدف والقدرة الاستيعابية ، و تلك الظاهرة تعاني منها عدد من المدن حول العالم والتي تم ضخ استثمارات عقارية كبيرة بها ولكنها لم تنجح في جذب السكان، لعدم تمكن تلك المدن من خلق سبب فعلي يقنع السكان بالانتقال الدائم إليها، أو خلق محفزات مغرية تدفع المؤسسات الاقتصادية إلى ضخ استثمارات تؤدي إلى وجود فرص عمل مستدامة هناك، مما يؤدي إلى ندرة الخدمات المتاحة وعدم جدوى وسائل المواصلات إن كان قد تم تنفيذها بالفعل.

فعلى سبيل المثال تعد التجارب الصينية في إنشاء المدن الجديدة المتكاملة هي خير نموذج لهذه المشكلة، حيث تم ضخ استثمارات ضخمة بمليارات الدولارات لتشييد مدن متكاملة الخدمات بشكل معماري متميز من أحياء سكنية ومناطق إدارية وتجارية وبنية تحتية متطورة ووسائل مواصلات جيدة، إلا أنها لم تنجح في جذب الصينيين للانتقال إليها وكانت نسبة الإشغال قليلة للغاية، وكان أغلب المبيعات نوعًا من الادخار في صورة عقار، إلا أن الحكومة الصينية نجحت في زيادة نسبة إشغال بعض المدن من خلال اتخاذ عدد من الإجراءات التي ساهمت في بدء الحياة هناك، مثل نقل بعض مقرات الشركات والبنوك المملوكة للحكومة إليها كما تم في منطقة بودونج في شنغهاي والتي كان يطلق عليها مدينة الأشباح سابقًا، وأصبحت حاليًا تعتبر من أهم المناطق الاقتصادية في الصين.

وعلى الرغم من قيام مصر ببناء العديد من المدن الجديدة منذ نهاية السبعينيات لاستيعاب الزيادات السكانية، إلا أن الإقبال على الانتقال إلى أغلب تلك المدن كان ضعيفًا، بسبب عدم توافر فرص العمل الواسعة خارج القطاع الخدمي أو الحكومي، و ضعف وسائل الانتقال المنتظمة لنقل السكان لأعمالهم بالمدن المجاورة.

، فعند القيام بالمقارنة بين بعض المدن الجديدة في نطاق القاهرة الكبرى ، نلاحظ أن مدينة القاهرة الجديدة (وتعتبر من أحدث المدن إنشاءً (عام 2000) هي الأعلى في الكثافه السكانيه، وذلك بالتزامن مع ازدياد عدد الشركات والمؤسسات التي قامت بنقل مقراتها إلى القاهرة الجديدة، والذي انعكس بدوره على انتشار فرص العمل المختلفة والخدمات التجارية والترفيهية، ووسائل المواصلات الخاصة وغيرها، مما جعلها من أكثر المدن جذبًا للسكان، وبالتالي ازداد بها سعر الأراضي والوحدات العقارية، أما مدينة مثل مدينة بدر فهي الأقل في عدد السكان على الرغم من مرور ما يقرب من 40 عامًا على بدء إنشائها، وإن كانت في السنوات الأخيرة بدأت في الانتعاش نظرًا لبدء العمل بالعاصمة الإدارية الجديدة واحتياج العاملين بها إلى سكن قريب.

كما أن يجب ملاحظة أن نسبة السكان في تلك المدن لا تزيد على 8% من إجمالي المستهدف، مما يعني أن نمو تلك المدن لا يزيد على 0.27% سنويًا في المتوسط، وهذا رقم قليل مقارنة بالمعدل القياسي لنمو المدن والذي يتراوح بين 1% إلى 3%.

و تنبهت الحكومة المصرية إلى ضرورة معالجة أزمتي الانفجار السكاني والمركزية حول وادي النيل، وبدأت بالفعل وفقًا للاستراتيجية 2030 بالعمل في هذا الاتجاه، وقامت ببناء عدد من المدن والمشروعات القومية التي ستساهم في حل تلك الأزمات ، فإذا أخذنا مدينة العلمين الجديدة كمثال، فإننا نجد أنه قد تحقق فيها المتطلبات الخاصة بالتنمية الشاملة في إطار استراتيجية 2030.

فهي مدينة جديدة خارج وادي النيل بمسطح 48 ألف فدان تقريبًا تحتوي على مناطق سكنية وتجارية وصناعية وخدمية وسياحية، تم بناء عدد من الأبراج الشاطئية ذات الطراز المعماري المميز، بالإضافة إلى حي مخصص للمال والأعمال والذي يحتوي على برج أيقوني على غرار العاصمة الإدارية الجديدة، كما توجد أيضًا جامعات تكنولوجية بها ، بالإضافة إلى ذلك، فإنه قد تم الاهتمام بوسائل النقل المختلفة وتمثل ذلك في وجود مطار العلمين الدولي، وشبكة القطار السريع التي تربط مدينة العلمين الجديدة بمدينة العين السخنة، مرورًا بإقليم القاهرة الكبرى كمرحلة أولى،

وللحقيقه لا يمكن أن نغفل قيام الدولة المصرية بمجهودات كبيرة للترويج لمدينة العلمين الجديدة مثل الاهتمام بتنظيم الفعاليات السياحية والمهرجانات منها مؤخرا مهرجان العلمين للعام الثاني علي التوالي، والتي ساهمت بشكل كبير في رواج المدينة وارتفاع أسعار تأجير الوحدات والإقامة في الفنادق، وكذلك تنظيم معرض مصر الدولي للطيران بمدينة العلمين الجديدة وعمل العروض الجوية في مايو 2024 ليكون مزارًا ليس فقط للمتخصصين وإنما للمواطنين الراغبين في الاستمتاع بالعروض الجوية ، وبجانب ذلك، فإن استقبال القيادة السياسية لضيوف مصر الكرام وتنظيم المباحثات بها ، وهو ما خلق سبب حقيقي للسكان الأصليين يجعلهم مقبلين على الانتقال الدائم للعيش فيها من خلال خلق أنشطة اقتصادية متنوعة وواعدة، وبالتالي هو ماسيسهم في صناعه التوطين السكاني المستدام، كما يمكن عمل برامج دعم وتحفيز للشركات الناشئة في حالة اختيار مدينة العلمين الجديدة كنقطة البداية للأعمال.

وأخيرا ، إن استراتيجية التنمية السكانية خارج الوادي وتمدد النمو السكاني في مختلف أنحاء مصر هو ضرورة ملحة، ويمكن تحقيق ذلك من خلال خلق وتهيئة كافة الأسباب للسكان للانتقال الدائم إلى المدن الجديدة والقضاء على المركزية الشديدة التي تعاني منها الدولة المصرية، لذا يجب على أجهزة الدولة المصرية التكاتف التام والعمل الجماعي مع وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية الجديدة في إطار استراتيجية 2030، لكي تنجح التجربة المصرية وتتفادى أخطاء الغير والاستفادة من تجاربهم.

كتب : محمد فؤاد  متخصص في ملف التنمية والتطوير العمراني وعضو جمعيه رجال الأعمال المصرية البريطانية