حذرتني زوجتي كثيرًا من الكتابة في هذا الموضوع، وإذا كنت عزيزي القارئ متزوجًا فلا بد أنك تعلم أن للزوجة المصرية حدسا لا يخطئ أبدًا (أو هكذا يتصورن). ورغم رغبتي في أن أكون الزوج المطيع، لكن الحقيقة أن اهتمامي بالشأن العام الاقتصادي قد غلبني.
في البداية، أحسن البنك المركزي المصري صنعًا بتجريم أي تعامل في العملات المشفرة، سواء تداولًا أو تعدينًا (والتعدين يعني استخدام أجهزة حواسيب لتصنيع العملات المشفرة)، وإلا كان الأمر قد تحول إلى مهزلة حقيقية في اقتصاد يعاني من انخفاض واضح في الوعي الاستثماري المجتمعي، واندفاع شره تجاه أي حلم للثراء، والذي كان يمكن في أي لحظة أن يؤدي إلى كارثة اقتصادية حقيقية لو اندفع الأفراد لتداول العملات المشفرة، مما قد يؤدي إلى تبخّر ثروات المجتمع إذا ما انهارت العملات المشفرة.
- ومع ذلك، لا أستطيع أن أمنع نفسي من ملاحظة أنه لم يعد يمر يوم دون أن تقرأ عن دولة ما تقوم بخطوة جديدة تجاه العملات المشفرة، فبالأمس، تقرأ عن نية الولايات المتحدة تحويل جزء من احتياطها النقدي إلى العملة المشفرة، ثم تسمع عن توجه دبي لقبول دفع الرسوم الحكومية بالعملات المشفرة وكذلك البحرين، واليوم تزف إلينا بوابة التكنولوجيا المالية fintechgate خبرا عن تخصيص باكستان لألفي ميجاواط من الكهرباء لتعدين العملات المشفرة، وغدًا ستطالع بالتأكيد خبرًا جديدًا في نفس التوجه من دولة جديدة.
وتثير تلك التوجهات تساؤلات مشروعة: أين مصر من هذا الشأن؟
ولعدم تضييع وقت القارئ، فإذا كانت العملات المشفرة قد أصبحت سلعة مقبولة عالميًا – شئنا أم أبينا – فلماذا لا نُطلق جهة حكومية مشروعا قوميا لتحويل مصر إلى مركز إقليمي لتعدين (إنتاج) 2–3% من العملات المشفرة سنويًا؟ وهو ما قد يُسهم في تحقيق ما بين مليار إلى 2 مليار دولار سنويًا.
راجع كلماتي جيدًا: جهة حكومية وتعدين. لم أذكر أفرادًا أو قطاعًا خاصًا، ولم أذكر تداولًا أو بيعًا وشراء.
إن مصر – على الأخص – لديها ميزة تنافسية هائلة في مجال تعدين (إنتاج) العملات المشفرة، ألا وهي تكلفة الكهرباء، التي تعد العامل الحاسم في تكلفة صناعة البيتكوين. بعيدًا عن النغمات التي لا تُفضلها، فإن سعر الكهرباء في مصر كسعر مطلق (وليس قياسًا على مستوى الدخل) يُعتبر من أرخص الأسعار في العالم. فهل تعلم عزيزي القارئ أن إنتاج عملة بيتكوين واحدة على سبيل المثال سيكلف في مصر نحو 10–15 ألف دولار، بينما سعرها الحالي في الأسواق العالمية يتجاوز حاجز 100 ألف دولار؟.
وهو ما يعني أن مصر قادرة على تحقيق عوائد تصل إلى 600% على الكهرباء، وبالتالي على الغاز المستخدم في إنتاج الكهرباء (وهو عائد أعلى من تصديره)، أو حتى عائد أعلى على المحروقات المستوردة التي تستخدمها في إنتاج الكهرباء في مصر.
والأهم أن العوائد ستكون بالدولار، وستخلق رافدًا جديدًا للعملة الصعبة يمكن أن يصل إلى 10–30% من إيرادات قناة السويس سنويًا.
وما يميز المشروع هو عدم احتياجه إلى معرفة تقنية متخصصة (know-how) أو عمالة مدربة أو حتى خطط تسويقية مثل المنتجات الأخرى التي نحاول تصديرها. ففي نهاية الأمر، يُنتج الملايين حول العالم عملات مشفرة من منازلهم باستخدام أجهزة بسيطة.
حسنًا، أعرف ما يدور في ذهن القارئ من اعتراضات:
هل تريد تعريض النظام المالي للمخاطرة جراء السماح بتداول تلك المنتجات؟
المقترح لا يدعو لتداول العملات المشفرة ولكن لإنتاجها فقط وإعادة بيعها. كما لا يدعو لتواجد أفراد أو حتى قطاع خاص في المنظومة، وبالتالي فإن سلامة النظام المالي محفوظة ومصانة، وسيتم التصريح من البنك المركزي للجهات الحكومية الراغبة في دخول هذا القطاع فقط.
أما الاعتراض الثاني الذي قد أتلقاه فهو أن مصر لديها عجز بالفعل في إنتاج الكهرباء، وبالتالي لن تستطيع توجيه جانب من الكهرباء لإنتاج البيتكوين.
لا أعتقد أن مصر لديها عجز، وإنما التفاوت الذي حدث في السنوات الأخيرة أسبابه معلومة. وعلى العموم، هناك بدائل عديدة مثل استخدام الطاقة الشمسية، وبالتالي ستحقق عائدًا أعلى بكثير، وبطاقة نظيفة ومستدامة، وتوفر الغاز للتصدير أو لاستخدامه في الصناعة.
كما أن تقديري أن مشروع إنشاء مزرعة تعدين عملاقة يصلح في منطقتين:
أولاهما الساحل الشمالي بالقرب من محطة الضبعة، حيث تنخفض درجة الحرارة، وبالتالي ينخفض الاحتياج إلى قدرات هائلة في التكييف، كما يمكن استخدام مياه البحر في عمليات التبريد لتوفير الكهرباء.
أو الجانب الآخر في أقصى الجنوب باستخدام ألواح شمسية على بحيرة ناصر لتخفيف أثر البخر على مياه البحيرة، والتي تفقد 10 مليارات متر مكعب سنويًا، تعادل 15% من احتياجات مصر من الأراضي الزراعية.
وماذا عن مخاطر انخفاض أو انهيار العملة؟
قراءة المشهد تقول إن مخاطر انهيار أو حظر العملة لن تتحقق خلال الحقبة الترامبية، والذي يكرّس الكثير من قراراته لتدعيم العملات المشفرة. والأراضي التي تكسبها العملات المشفرة في السنوات الأخيرة تؤكد أننا – شئنا أم أبينا – سيكون من الصعب قبول انهيارها بشكل مفاجئ. وحتى في حالة تراجع أسعار العملات المشفرة، فتكلفة إنتاج العملة المشفرة تنخفض أيضًا في نفس الوقت، مما يسمح بالحفاظ على هامش ربح.
وفي نهاية الأمر، هناك مخاطر في أي استثمار.
الخلاصة: من التحذير إلى التحرك
التحذير من العملات المشفرة كان ضروريًا لحماية الاقتصاد من الاستخدام العشوائي وغير المنضبط.
لكن الفرص التي تتيحها هذه التكنولوجيا — وعلى رأسها نشاط التعدين — تستحق أن يُعاد تقييمها من منظور الدولة.
مصر تملك البنية التحتية، والطاقة، والخبرة التقنية، والدوافع الاقتصادية لتكون لاعبًا منظمًا في اقتصاد رقمي عالمي جديد.
العملات الرقمية ليست تهديدًا في حد ذاتها… بل فرصة تنتظر التقنين بتروٍّ.
بيان إخلاء مسؤولية:
الاستثمار في العملات المشفرة أمر مجرَّم في مصر إلا بتصريح من البنك المركزي المصري، ولا تعدّ تلك المقالة دعوة من الكاتب للشراء أو التعدين أو مخالفة أي من أنظمة الجهات الرقابية في مصر.
بقلم: دكتور أحمد السيد
خبير الإقتصاد والتمويل
مقالات سابقة للكاتب: