كيف يُسهم الابتكار المالي في مواجهة الأزمات العالمية؟

مقال د. مدحت نافع نقلا عن مركز الأبحاث والدراسات المتقدمة واعمله

في أعقاب الانهيار المالي عام 2008، تعرضت صناعة الخدمات المالية لأزمة معقدة، ترتب على تداعياتها ظهور موجة جديدة من الابتكارات المالية التي كان من شأنها إحداث تحوّل في الصناعة وإطلاق طفرة جديدة في مجال التكنولوجيا المالية. وخلقت الأزمة فرصاً للشركات الجديدة للتدخل والاستجابة لاحتياجات الأفراد والشركات الصغيرة، من خلال تقديم تمويل ميسّر وتعزيز المرونة في نظام الخدمات المالية. ومنذ ذلك الحين، شهد العالم تحولاً مستمراً في الخدمات المالية، حيث يتيح المبتكرون الجدد للمستهلكين كثيراً من الخيارات طوال الوقت، مع تسهيل الوصول إلى مجموعة واسعة من المنتجات. وبحلول عام 2019، كان المقرضون “البدلاء”، تلك الشركات الجديدة مقدمة الخدمات المالية عوضاً عن البنوك، يقدمون أكثر من نصف القروض الممنوحة للشركات الصغيرة في المملكة المتحدة.

ومع مواجهة جائحة عالمية غير مسبوقة، وكذلك تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، رأينا مرة أخرى عالم التكنولوجيا المالية يرتقي إلى مستوى التحدي. وقد سلّطت هذه الأزمات الضوء على الدور الذي يمكن أن تلعبه التكنولوجيا في جميع مجالات الحياة، وفي مقدمتها الخدمات المالية. وساعد الابتكار المالي الأفراد والشركات في مختلف الأنحاء، حيث قُدمت حلول حسنت الرفاهية المالية واستقرار الأعمال، ودعمت الفئات الأكثر ضعفاً. ونتيجة لذلك، تسارعت وتيرة تبني التكنولوجيا المالية.

تطورات النظام العالمي:

في العقدين الماضيين، أدت التحسينات التكنولوجية والابتكار المالي إلى تحولات في النظام المالي العالمي، وأصبحت البنوك في الوقت الحاضر لا تشبه بأي شكل من الأشكال البنوك في الماضي. فالمزايا التي يجلبها الابتكار التكنولوجي، تمكّن البنوك الكبيرة من أن تكون أكثر مرونة من البنوك الصغيرة في توليد وإدارة المنتجات المالية المختلفة، لأن البنوك الصغيرة تفتقر إلى النطاق والاستثمار المطلوبين لمواجهة تحديات الابتكار المالي، وفي مقدمتها زيادة المعلومات غير المتماثلة المؤثرة على تقييم الأصول والديون والضمانات باستمرار، وارتفاع تكاليف المعاملات.

وفي الوقت ذاته، زادت المدفوعات الإلكترونية من السرعة وكفاءة النظام، مع تقليل الحاجة إلى الاحتفاظ بالودائع لفترات أطول. هذا المثال وحده، يزيد الضغوط من أجل إحداث تغييرات جذرية في البنوك والوسطاء الماليين بصفة عامة. ومن وجهة نظر مالية، يمكن القول إن السرعة في أداء العمليات تؤدي بدورها إلى خفض تكاليف الخدمات، وانخفاض المصروفات التي لها تأثير مهم على الالتزامات المالية للمؤسسات، وخاصةً البنوك.

في الماضي، كانت معظم المدفوعات تتم باستخدام أوراق الدفع، مما أتاح مصدراً آمناً للتمويل للبنوك التجارية، حيث احتفظت بهذه الأموال لفترات أطول في الحسابات الجارية. وحديثاً، زادت تسوية النفقات من خلال المدفوعات الإلكترونية بشكل كبير، وبدأت تقنية المعاملات الإلكترونية، التي ظهرت بشكل أساسي مع أجهزة الصراف الآلي، في التطور والتوسع بسرعة. وفي الآونة الأخيرة، أدى ظهور الخدمات المصرفية عبر الإنترنت والهاتف، أو حتى مزيج من الاثنين، إلى زيادة الاستثمار في هذا النوع من التكنولوجيا ومن ثم تحسّن كفاءة المدفوعات الإلكترونية.

على جانب آخر، نشأت “أسواق المشتقات المالية” بدورها بشكل أساسي نتاج التكنولوجيا الجديدة. فحتى الثمانينيات من القرن الماضي، كانت البنوك تمنح القروض، وتستخدمها لإدارة محافظها الاستثمارية. ومع ذلك، فإن السيناريو التكنولوجي الجديد يتطلب السرعة والتنوع والتوسع في الأسواق، مما أدى إلى الحاجة إلى إدارة المخاطر وظهور المشتقات المالية. إن “توريق الأصول”، الذي توفره أدوات تكنولوجيا المعلومات، هو العملية التي يقوم من خلالها الوسطاء الماليون بتحويل مخاطر الائتمان إلى الأسواق بمساعدة أدوات الإدارة والمراقبة.

مواجهة الأزمات العالمية:

يواجه العالم حالياً ثلاث أزمات هي تبعات جائحة كورونا، والحرب الروسية – الأوكرانية، وتغير المناخ، وقد لعبت الحلول والابتكارات المالية الرقمية دوراً مهماً في مواجهة هذه الأزمات. وبشأن الحرب الأوكرانية، تم حشد التكنولوجيا المالية بسرعة لدعم الجهود الإنسانية، وتقديم الحلول الرقمية الأساسية للمتأثرين على أرض الواقع. ومكّنت تلك الحلول تيار اللاجئين المتدفق من أوكرانيا إلى دول أوروبا المجاورة (وفي مقدمتها بولندا التي استقبلت حتى الآن ما يزيد عن 5 ملايين لاجئ أوكراني) من الوصول إلى الخدمات المصرفية عبر الإنترنت، وتلقي تحويلات نقدية عاجلة من الأصدقاء والأقارب. كما دعمت تنفيذ عقوبات اقتصادية مشددة ضد موسكو بسرعة وتغطية غير مسبوقة.

وقد تطور الصراع بين روسيا وأوكرانيا إلى حرب اقتصادية وتكنولوجية بقدر ما هي حرب جيوسياسية. وعلى هذا النحو، لا ينبغي استبعاد الاحتمال الوشيك لهجمات انتقامية مباشرة ضد المؤسسات المالية الغربية. وحذر المركز الوطني للأمن السيبراني في المملكة المتحدة من تعرض المؤسسات المالية الغربية لهجمات إلكترونية، داعياً إياها إلى “تعزيز دفاعاتها عبر الإنترنت”. وقد نصح البنك المركزي الأوروبي البنوك بتعزيز دفاعاتها ضد الهجمات الإلكترونية أيضاً.

على جانب آخر، تحرّك مجتمع البنوك والشركات العاملة في مجال التكنولوجيا المالية لدعم الجانب الأوكراني من خلال تحمل رسوم لتحويل الأموال الدولية إلى أوكرانيا، أو تبسيط عمليات فتح حسابات جديدة للأوكرانيين. ومن ذلك مثلاً، تبرّع كل من “فيزا” و”ماستر كارد” بمليوني دولار لكل منهما للمساعدات الإنسانية. وتعمل شركة “ريفولت” مع رئيسها الروسي المولد، على تسهيل تقديم تبرعات مباشرة للمنظمات غير الحكومية لمساعدة المتضررين من الحرب. وقد أطلقت حركة Tech to the Rescue التطوعية حملة لمساعدة المنظمات غير الهادفة للربح، في الحصول على الدعم التكنولوجي المطلوب في مواجهة الأزمة.

وأسفرت الحرب الروسية – الأوكرانية عن استجابة جيوسياسية لم يسبق لها مثيل من المجتمع المالي الدولي. وهنا فإن السرعة المتزايدة التي تعلن بها البنوك وشركات التكنولوجيا عن عمليات الحظر التي تفرضها على روسيا، تجعلها أكثر عزلة عن بقية العالم. لكن هذه التدابير لن تُسبب فقط الألم لروسيا حالياً، بل سوف تعيق نموها لسنوات عديدة قادمة، لاسيما في قطاع التكنولوجيا، إذا تحرك الغرب لحظر صادرات التكنولوجيا إلى موسكو.

كذلك تواجه أوروبا، ومن ورائها الكثير من دول العالم، موجة تضخمية غير مسبوقة منذ عقود، على خلفية اضطراب سلاسل الإمداد العالمية المتضررة بفعل جائحة كورونا والحرب الأوكرانية، مما ينعكس سلباً على تكلفة المعيشة، وزيادة مخاطر التشديد النقدي والتقشف المالي، والذي يفضي إلى زيادة تكلفة الديون، وتقويض المرونة المالية للأفراد، ويؤدي كل ذلك إلى معاناة العديد من الحكومات والأسر والشركات. وفي ظل هذه الأزمات، تؤثر التكنولوجيا المالية في المعروض النقدي وسرعة تداول النقود، وتتيح بدائل عديدة لتنشيط حركة التجارة والخدمات ودعم الصناعة من خلال تسهيل حركة رؤوس الأموال بتكلفة وزمن أقل.

وما زلنا نواجه أحد أكبر التحديات التي يعانيها العالم، وهو مخاطر تغير المناخ. وإدارة هذا النوع من المخاطر سيعتمد على إعادة ربط الأنظمة المالية لتوجيه رؤوس الأموال إلى هدف صافي الانبعاثات الكربونية الصفرية (الذي به تتساوى الانبعاثات الكربونية الجديدة مع تلك التي يتم التخلّص منها). وتلعب التكنولوجيا المالية دوراً حاسماً في مساعدتنا على الوصول إلى هذا الهدف، من خلال هندسة منتجات وأدوات مالية مستدامة وخضراء (مثل الصكوك والسندات الخضراء ونقاط الائتمان الكربونية) من أجل تعبئة الاستثمارات لتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي وضعها البنك الدولي في عام 2015، والتي قدّرت هيئة الطاقة الدولية الالتزامات المالية المطلوبة لتحقيقها خلال العقد الراهن بما يزيد على تريليون دولار سنوياً.

ولا شك أن مستقبل الخدمات المالية، والاقتصاد العالمي، ستحددهما هذه الأزمات، وكيف نستجيب لها. وسوف نرى آفاق هذا المستقبل من خلال موجة جديدة من الابتكار المالي والتمويلي، والأصول الرقمية القابلة للبرمجة، والمدفوعات والأسواق النافذة إلى السلاسل المغلقة، والجيل القادم من حلول الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وهذا بدوره سيضع التنظيم والرقابة المالية في دائرة الضوء.

الابتكار المالي في عالم جديد:

لم تؤدِ الأحكام التنظيمية والقوانين والقواعد إلى تحصين أسواق المال بشكل كامل من حدوث أزمات جديدة حالياً أو في المستقبل، حيث إن تلك الأزمات ملازمة بطبيعتها للنظام الرأسمالي. ومن ثمّ، فمن الضروري إدراك القدرة المحدودة للتنظيم والإشراف الماليين على مراقبة النظام المالي في مواجهة مختلف أنواع المخاطر. وتميل ديناميكيات الخدمات المالية التنافسية إلى تعزيز الحد من الرقابة، وتشجع البحث عن أدوات ومنتجات جديدة تتجاوز الحدود التنظيمية. وإدراك هذه الحدود لا يعني أن الدولة تتجاهل وظيفتها التنظيمية في الأعمال المصرفية والتمويل، ولكن هذه الوظيفة يجب أن تتطور باستمرار من أجل خلق حاجز مناسب ضد سوء سلوك السوق في بحثه المستمر عن أرباح عالية.

وحول فرص ومخاطر الابتكار المالي عالمياً، فقد آمن “ألان جرينسبان”، الرئيس الأسبق للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أن الابتكار المالي كان يعمل على توزيع المخاطر على أولئك الأقدر على تحملها ضمن النظام المالي. وأثبتت أزمة الرهن العقاري خلاف ذلك، مما عظّم من شأن وصف المستثمر الشهير “وارن بوفيت” للمشتقات بأنها “أسلحة دمار مالي شامل” على حد قوله. وتتضمن أدبيات الاقتصاد كلاً من المؤيدين والمعارضين للابتكار المالي. إذ يرى المؤيدون أن الأدوات الجديدة والتقنيات تعمل على تخفيض تكاليف العمليات المالية، وتجعل الأسواق أكثر كفاءة، وتساعد على حل المشكلات الاجتماعية، وتسهم في النمو الاقتصادي.

أما المشككون، فيبرزون قضية التكاليف الباهظة، حيث أكد الاقتصادي الكندي “جالبرايث” الدور الكبير للديون في مقولته: “يتضمن الابتكار المالي، بشكل أو بآخر، خلق الدين المضمون بملاءة مالية أكبر، أو أصغر من جانب الأصول الحقيقية. وتضمنت جميع الأزمات ديناً أصبح بصورة أو بأخرى خارج نطاق الحجم المقبول، وذلك بصورة خطيرة، مقارنةً لما يتوافر من وسائل للسداد”.

ختاماً، وفي ظل وجود عبء متزايد من التشريعات والقرارات التنظيمية، فإنه من المُحتمل أن يقدم الابتكار المالي صيغاً جديدة لتخطي القواعد المستحدثة، تماماً كما فعل بعد ظهور قواعد “بازل 1” الخاصة بتنظيم البنوك العالمية في أوائل تسعينيات القرن الماضي.

اقرأ أيضا..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.